الأخبار

حسام الحوراني : الذكاء والكم والرؤية: حين يرى الدماغ دون عين وعندما تلتقي الخوارزميات والفيزياء بالرحمة

حسام الحوراني : الذكاء والكم والرؤية: حين يرى الدماغ دون عين وعندما تلتقي الخوارزميات والفيزياء بالرحمة
أخبارنا :  

في عمق أعيننا، لا تسكن الرؤية فقط، بل يسكن الأمل، ويسكن الحلم، ويسكن الإيمان بقدرة الإنسان على الانتصار على العتمة. في كل رمشة عين، قصة تُكتب بلغة الضوء، وفي كل نظرة، حياة تنبض بتفاصيلها. لكن ماذا لو فقدت هذه النعمة؟ ماذا لو تراجعت الرؤية أو خبت تمامًا؟ هنا، يقف الطب بكل طاقاته، ويقف الإنسان بكل علمه، مدفوعًا بشغفٍ لا يتوقف، وبأدوات باتت اليوم أكثر ذكاءً وقدرة: الذكاء الاصطناعي وحواسيب الكم.

طب العيون، ذلك العلم النبيل الذي يحرس نافذتنا إلى العالم، يدخل اليوم مرحلة جديدة، تتجاوز الأدوات الجراحية، والمجاهر الضوئية، والتصوير التقليدي. إنه يخطو بثقة نحو عصر تتداخل فيه الخوارزميات مع العدسات، وتتشابك فيه الذرات الكمومية مع الخلايا البصرية، لتُحدث ثورة هادئة، لكنها جبّارة، في كيفية التشخيص، والعلاج، والاستباق.

الذكاء الاصطناعي أصبح عينًا إضافية للطبيب. يستطيع اليوم، خلال ثوانٍ، أن يُحلل صورة الشبكية، ويُحدد وجود اعتلالات دقيقة قد تغيب حتى عن عين الطبيب المتمرس. أنظمة الذكاء العميق تستطيع أن تكشف علامات مبكرة على أمراض مثل اعتلال الشبكية السكري، أو المياه الزرقاء، أو التنكس البقعي، بدقة تصل إلى ما يفوق البشر أحيانًا. ليست المسألة فقط في التشخيص، بل في السرعة والدقة، في الوصول إلى المناطق النائية حيث لا يوجد طبيب، وفي إتاحة التشخيص الفوري لمن يحتاجه بأقل تكلفة ممكنة.

لكن الأفق لا يتوقف عند الذكاء الاصطناعي وحده. هناك قوة جديدة تتقدم بثبات، قادمة من قلب المعادلات، ومن عوالم لا تُرى: حواسيب الكم. هذه الحواسيب، التي تستخدم خصائص الجسيمات دون الذرية، تمتلك قدرة غير مسبوقة على إجراء حسابات معقدة تتطلب من الحواسيب التقليدية آلاف السنوات. وفي طب العيون، تفتح هذه الحوسبة أبوابًا لم نكن نحلم بها.

تخيّل قدرة على محاكاة سلوك البروتينات والخلايا العصبية في العين، بدقة فائقة، لتطوير أدوية جديدة لأمراض مستعصية. تخيّل نماذج كمومية تحلل الجينوم البشري وتربط بين الطفرات الجينية ومشاكل الرؤية، لتُصمم علاجات مخصصة لكل فرد. تخيّل القدرة على محاكاة العين البشرية في بيئات ثلاثية الأبعاد، لاختبار عدسات جديدة، أو عمليات تصحيح النظر، قبل تنفيذها على أرض الواقع.

هنا، لا يعود الطب فقط مهنة، بل يصبح تعاونًا بين الإنسان والآلة، بين الحدس البشري والعقل الخوارزمي، بين الحواس التقليدية والقدرات الكمية الخارقة. والمحصلة؟ منظومة طبية أكثر إنصافًا، وأكثر دقة، وأكثر شمولًا.

وفي قلب هذا التقدّم، يبقى الهدف واحدًا: حماية الضوء في أعين البشر. لأن الرؤية ليست فقط نعمة جسدية، بل أيضًا بوابة إلى التعليم، والعمل، والتواصل مع من نحب. وكل تطوير في طب العيون، مدفوعًا بهذه التقنيات المتقدمة، هو استثمار في الإنسان، في قدرته على أن يرى العالم، وعلى أن يشارك فيه.

لكن كل ما سبق ليس سوى بداية الطريق. ففي أقصى آفاق الابتكار، يتقدم الذكاء الاصطناعي وحواسيب الكم نحو قفزة نوعية قد تعيد تعريف مفهوم الرؤية من جذوره. نحن نقترب من مرحلة لن يمر فيها الإدراك البصري عبر العين، بل ستُوصَل الصور مباشرة من الكاميرات سواء كانت تقليدية أو فائقة الذكاء إلى الدماغ البشري دون المرور بالمستقبلات البصرية المعتادة ودون حتى الاتصال بالعين. تخيل أن يُستبدل العصب البصري بمعالج كمومي يتصل بالشبكات العصبية للدماغ مباشره!، ناقلًا الصور، والتحليلات، والانطباعات بشكل لحظي وفوري وباقل من مليار جزء من الثانية. إنها ليست خيالًا علميًا، بل ملامح مستقبل تُرسم الآن في مختبرات الأعصاب والفيزياء الحاسوبية، حيث تسعى البشرية إلى تجاوز حدود البيولوجيا، وربط الإنسان بالعالم من حوله عبر قنوات إدراك جديدة تمامًا. هذا ليس فقط وعدًا لمن فقدوا البصر، بل بوابة لإعادة تصميم الإدراك البشري نفسه، بما يتجاوز الرؤية نحو الوعي المتكامل بالمكان والزمان والمعلومة.

لكننا بحاجة إلى أكثر من التقنيات. نحتاج إلى رؤية عربية مشتركة، تستثمر في البحث العلمي المتقدم، وتدعم أطباء العيون، وتُؤسس مراكز للابتكار في الطب البصري. لدينا في العالم العربي كفاءات طبية هائلة، لكنها تحتاج إلى بيئة ابتكار ذكي كمي متقدم تتنفس فيها، وتدعمها، وتدمجها بالتقنيات الجديدة. ماذا لو أنشأنا أول مركز عربي يستخدم الذكاء الاصطناعي وحواسيب الكم في أبحاث العيون؟ ماذا لو قدّمنا للعالم نموذجًا يُنقذ ملايين الأرواح من العمى، من منطقتنا، من حضارتنا، من إنساننا؟

إن الجمع بين الذكاء الاصطناعي، وحوسبة الكم، وطب العيون، ليس مجرد تقاطع تقني، بل وعد أخلاقي بأننا لن نترك أحدًا في الظلام. بأن كل عين ستظل ترى، وكل طفل سيقرأ، وكل أم سترى وجه طفلها، وكل إنسان سيحظى بفرصة أن يرى النور في كل لحظة.

وفي نهاية المطاف، هذا هو جوهر الطب: أن نستعيد ما يفقده الناس، أن نعيد لهم ضوء الحياة، وأن نضع العلم في خدمة الرحمة. أن نستخدم أعقد ما أنتجته عقولنا لنحمي أبسط ما يجعلنا بشرًا: قدرتنا على أن نرى ونبصر. ــ الدستور



مواضيع قد تهمك