الأخبار

جمال القيسي : الثقافة .. الحكومة والأحزاب .. شراكة غائبة ومسؤولية مؤجلة

جمال القيسي : الثقافة .. الحكومة والأحزاب .. شراكة غائبة ومسؤولية مؤجلة
أخبارنا :  

لطالما أدرك "عقل الدولة" الأردنية أهمية الأحزاب السياسية كركيزة أساسية في بناء الدولة الحديثة وتعزيز الحياة الديمقراطية. ومع ذلك، ظلت العلاقة التاريخية بين الدولة والأحزاب محكومة بالتوجس وانعدام الثقة، لكن الإرادة السياسية توجهت نحو ترميم هذه العلاقة ضمن مشروع التحديث السياسي وما واكبه من إصلاحات تشريعية تمثلت في قانوني الأحزاب والانتخاب تطلبا تعديلات دستورية شكلية تسمح بتنفيذ القانونين الأكثر تأثيرا في الحياة السياسية الأردنية.

في هذا السياق الهام، نطرح التساؤل البناء: ماذا قدمت الحكومة الحالية، بقيادة د. جعفر حسان، للأحزاب بعد مرور أكثر من 200 يوم على تشكيلها؟.

منذ تشكيل الحكومة الحالية، لم تُظهر مؤشرات واضحة على وجود استراتيجية جدية لتعزيز دور الأحزاب السياسية، وخلا استطلاع مركز الدراسات الاستراتيجية الأخير، الذي قُدّم كمؤشر لتقييم أداء الحكومة، من أي سؤال أو إشارة تتعلق بعلاقة الحكومة بالأحزاب، مما يعكس غياب هذا الملف عن أدوات الرصد وأولويات الدولة على حد سواء. بل إن اللقاءات التي عُقدت مع بعض الأحزاب كانت محدودة ومنتقاة، واقتصرت على تيارات معينة، دون إشراك طيف واسع يمثل المشهد الحزبي الوطني.

إن اختزال التواصل السياسي للدولة مع الأحزاب التي فازت بمقاعد نيابية فقط، يُعد تبسيطًا مخلًا بواقع التعددية السياسية. فمثلًا؛ حصل الحزب الديمقراطي الاجتماعي الأردني والحزب الشيوعي الأردني، وأحزاب يسارية أخرى، على عشرات آلاف الأصوات في الانتخابات النيابية الأخيرة، رغم خوضها المعركة منفردة وبموارد محدودة. هذه الأحزاب، لو أنها اجتمعت على صيغة ائتلافية موحدة، لعبرت عن لون سياسي راسخ ومتماسك ذي مرجعية ديمقراطية اجتماعية واضحة. وبالتالي، فإن غيابها عن البرلمان لا يلغي حضورها المجتمعي، ولا مشروعها السياسي الذي يُعبّر عن تيار تاريخي له جذور في الوعي الوطني والنقابي والطلابي.

إن تغييب هذه الأحزاب عن اللقاءات الحكومية، وعدم إدراجها في مسار الحوارات السياسية، يعني تجاهلًا لصوت سياسي يحمل مشروعًا وطنيًا مدنيًا، ويقوّض فرص بناء بيئة سياسية متوازنة تمثل جميع الاتجاهات الفكرية؛ فالتعامل مع الأحزاب يجب أن يكون وفق نشاطها السياسي، وبرامجها، ومواقفها، وتفاعلها المجتمعي، لا فقط وفق عدد مقاعدها البرلمانية، لأن الشرعية السياسية لا تُقاس بالأرقام فقط، بل بالتأثير والأفكار والحضور الوطني.

التمثيل البرلماني ليس المعيار الوحيد لشرعية الأحزاب:
في تجارب ديمقراطية راسخة، كثيرًا ما تفشل بعض الأحزاب ذات القاعدة الفكرية الصلبة في دخول البرلمان، رغم حضورها المؤثر في الشارع والنقابات والمجتمع المدني. خذ فرنسا مثلًا حيث لم يتمكن الحزب الشيوعي الفرنسي في بعض الدورات الانتخابية من تحقيق تمثيل برلماني واسع، رغم جذوره العميقة في الطبقة العاملة والحياة النقابية.
وفي ألمانيا، لا يضمن حزب اليسار (Die Linke) تمثيلًا دائمًا في (البوندستاغ) ، على الرغم من حضوره في ولايات شرق البلاد وتمثيله لتيار اجتماعي-ديمقراطي واضح.

وفي السياق العربي، يُعد حزب الوفد المصري مثالًا بارزًا. ففي انتخابات مجلس النواب المصري لعام 2020، حصل الحزب على 26 مقعدًا فقط من أصل 596 مقعدًا، رغم تاريخه العريق وتأثيره البارز في الحياة السياسية المصرية منذ أوائل القرن العشرين. كما أن الحزب التقدمي الديمقراطي التونسي، الذي كان من أبرز القوى المعارضة في عهد بن علي، فشل في الانتخابات الأولى بعد الثورة، رغم تأثيره في المجتمع المدني والنخب الثقافية.

حتى في الديمقراطيات الاسكندنافية، لا تعكس تركيبة البرلمان دائمًا التنوع السياسي في المجتمع، حيث تغيب أحيانًا قوى خضراء أو يسارية جديدة رغم تفاعلها في الحياة العامة. هذا يعني أن غياب حزب عن البرلمان لا يُلغي شرعيته ولا يُقصيه من المشهد الوطني، بل يؤشر أحيانًا إلى ثغرات في النظام الانتخابي أو إلى ضعف التحالفات الانتخابية، وليس إلى انعدام التأييد الشعبي. من هنا، فإن ربط شرعية الحوار السياسي فقط بالتمثيل النيابي يُعد اختزالًا يضر بالتعددية ويقوض فرص تجذير الديمقراطية.
ما الذي كان على الحكومة أن تفعله؟.

إن غياب استراتيجية حكومية لتعزيز الحياة الحزبية لا يعني غياب الإمكانات، بل غياب الإرادة السياسية. وكان بإمكان الحكومة، لو أرادت، أن تطلق سلسلة من الخطوات التي تعيد الاعتبار للعمل الحزبي، منها:

- إطلاق حوار وطني مؤسسي دوري مع الأحزاب.
- دعم الأحزاب ماليًا وفق معايير الجدية والتنظيم والمشاركة، لا بناءً على عدد مقاعدها البرلمانية فقط.
- تفعيل دور الأحزاب في إدارة الحكم المحلي.
- تخصيص مساحات منتظمة لها في الإعلام الرسمي.
- تشجيع ودعَم الاندماجات والتحالفات السياسية لدى الأحزاب الواعدة التي تحمل برامج تغييرية وتدفع نحو تجديد الحياة السياسية ديمقراطيا.
- تنظيم المؤتمرات الحزبية بدعم من وزارة الشؤون السياسية والبرلمانية لدعم الأحزاب بصورة جدية؛ فالنظام السياسي يحتاج الأحزاب القوية لأن الدول الحديثة لا تُبنى بالتكنوقراط وحدهم. فالأحزاب القوية تثري النقاش العام وتقدم حلولًا من خارج الصندوق الحكومي، وتوفر غطاءً سياسيا شرعيًا للحكومات المنتخبة، كما تخلق نخبة سياسية تمثل الشارع لا السلطة، إضافة إلى أن الأحزاب القوية هي التي ترسخ قيم الديمقراطية وتضعف العصبيات والولاءات الضيقة والهويات الفرعية، وتعزز العقد الاجتماعي وتربط المواطن بالسياسات العامة.

أين وزارة التنمية السياسية؟
أما وزارة الشؤون السياسية والبرلمانية، المعنية قانونيًا بتفعيل الحياة الحزبية، فقد اكتفت بأنشطة شكلية لا ترقى إلى مستوى الاستحقاق السياسي. لم تُسجل للوزير الحالي، د. عبد المنعم العودات، زيارات ميدانية واحدة لمقر أي حزب أردني، ولم تطلق الوزارة أية حوارات سياسية مع القوى الحزبية خارج الإطار البروتوكولي. والمفارقة أن الوزارة لا تزال تتعامل مع ملف الأحزاب بمنطق الحملات التوعوية، بينما المطلوب منها أن تكون منصة دعم وتمكين حقيقية. فهل يُعقل بعد أكثر من 200 يوم من تشكيل الحكومة، ألا تبادر الوزارة إلى لقاء أي من الأحزاب اليسارية أو الجديدة؟ وهل يكفي تنظيم ورشة هنا وهناك لنقول إن التحديث السياسي في مساره الصحيح؟ إن ما نراه من وزارة التنمية السياسية تجاه الأحزاب هو إدارة بيروقراطية للملف لا عمل سياسي ولا تنموي.

هذا التجاهل سيؤدي إلى مزيد من العزوف السياسي، وسيضعف، بلا شك، مسار التحول الديمقراطي، تاركا الأحزاب وحيدة في معركة الوجود السياسي، بلا دعم جاد ولا شراكة حقيقية. وكلما غاب البعد السياسي عن بنية الدولة، ضَعُف مشروع التحديث وتراجعت شرعية القرارات العامة.

إن إدراك "عقل الدولة" لأهمية الأحزاب لا يكفي وحده، بل يجب أن يُترجم ذلك إلى سياسات عملية وشراكات فعلية، وعلى الحكومة الحالية أن تتدارك هذا الغياب، وتبادر إلى بناء علاقة ناضجة مع الأحزاب، تقوم على الحوار والتشبيك، لا الانتقاء والتهميش؛ فالحياة السياسية لا تُبنى بالقرارات وحدها، بل بالإرادة السياسية الحقيقية لشراكة كاملة بين الدولة والمجتمع.



مواضيع قد تهمك