د. ربا زيدان : كيف تقتلنا الأخبار؟ .. عن الوعي في زمن العجز الجماعي

في زمن التدفق المستمر للمعلومات، لم تعد الأخبار مجرد وسيلة لفهم العالم، بل تحوّلت بالنسبة لي ولكثيرين إلى عبءٍ يومي يثقل النفس ويملأها بالأسئلة الوجودية كل يوم ..بل ربما كلّ نقرة.
ملايين البشر حول العالم يستهلكون الأخبار بشكل لحظي، ويتعرضون يوميًا لصور الحروب والمجاعات والقتل والاضطرابات. ومع هذا التدفق الكثيف للمحتوى الهائل الموجع، تحدث أحيانا حالة من الإرهاق المعرفي، يُصاحبها تراجع في التفاعل، وصعود متزايد للشعور بالعجز وانعدام التأثير.
تبدو المفارقة صارخة: في الوقت الذي أصبح فيه الوصول إلى المعلومة أسهل من أي وقت مضى، تتراجع قدرتنا النفسية على تحمّلها، وتتآكل تدريجيًا قدرتنا على التفاعل الإنساني معها.
يرتبط التلقي الإخباري التقليدي تاريخيًا بفكرة الوعي والمواطنة والمسؤولية والمشاركة الديمقراطية. إلا أن تحوّل المشهد الإعلامي في العقدين الأخيرين، خصوصًا مع صعود الإعلام الرقمي، غيّر هذه العلاقة جذريًا. فلم يعد متلقي اليوم ينتظر الأخبار، بل يعيش أحداثها. فمنصات التواصل الاجتماعي، وتطبيقات الأخبار الفورية، وخوارزميات التوصية التي لا تهدأ، جعلت مستهلكي الأخبار في موقع القرب الدائم من الألم البشري.
وهنا ايضاً يظهر احيانا ما يُعرف بـ الشلل المعرفي”وهي حالة يفقد فيها الأفراد القدرة على اتخاذ موقف أو مبادرة بسبب فرط المعلومات وتعقيداتها. فالصور الصادمة التي تصلنا من مناطق الاحتلال والحروب ومشاهد الظلم المتكرر، تولّد تعاطفًا لحظيًا، يليه شعور قاتل بالعجز ثم وفي حالات معينة انسحابا هادئا من المشهد.
تفسّر بعض النظريات الإعلامية هذه الظاهرة النفسية المتزايدة ومنها على سبيل المثال نظرية دوامة الصمت (Spiral of Silence) ، والتي تشير إلى أن الأفراد قد يميلون إلى الصمت أو الانسحاب حين يشعرون أن آراءهم لا تجد صدى أو تأثيرًا في المجال العام. وفي السياق الإخباري الحديث، يتحوّل هذا الصمت من كونه قرارًا يتشكل في اللاوعي إلى نوع من الانسحاب الشعوري نتيجة الإحساس بالعجز الجماعي.
كما أن من أبرز المفاهيم المتداولة في علم النفس الإعلامي اليوم ما يُعرف بـالإنهاك التعاطفي (Compassion Fatigue) وهي حالة يفقد فيها البشر القدرة على التفاعل العاطفي مع الكوارث الإنسانية بسبب التعرّض المزمن لها…اي أننا نقوم ب " التطبيع" مع الدّم..نعقد اتفاقا ضمنيا على قبوله يتدفق على شاشاتنا ..دون حراك ..
هذا الإنهاك لا يعني دوما غياب الضمير، بل قد يكون احيانا نتيجة لتضخمه. فالكثير من متلقي الأخبار المعاصرين لا تتلبد مشاعرهم لأن المعاناة لا تهمهم بل لأنهم يشعرون أنهم لا يملكون " أحيانا" ما يفعلونه حيالها، ومع تكرار العجز، يميل الدماغ إلى التكيّف عبر اللامبالاة.
مع تصاعد هذا الواقع، يبرز سؤال إشكالي: هل يقلل الانسحاب من الأخبار من معاناة المتلقين العاطفية؟ وهل يصبح الجهل شكلًا من أشكال الحماية النفسية؟
دعت العديد من الأصوات الفكرية مؤخرًا إلى ما يُعرف ب"الصوم الإعلامي” أي تنظيم العلاقة مع الخبر، وتخفيف وتيرة التعرض اليومي، للمحتوى المصور واعتماد وسائل أكثر بطئًا في الاستهلاك الإعلامي مثل الصحف الأسبوعية أو التحليلات المعمّقة.
لكن وفي المقابل أؤمن شخصيا أن الانسحاب الكامل من عالم " ما يحدث في الخارج "يفتح المجال أمام خطاب التزييف والتضليل، ويخلق فراغًا معرفيًا يُملأ غالبًا بالخطابات الشعبوية والمعلومات المفبركة وروايات العدو.
هل من الممكن بناء علاقة صحية مع الاخبار؟
لا يكمن الحل في إغلاق العيون، بل في إعادة بناء علاقة نقدية، مرنة، وإنسانية مع الخبر.
أن نتعلم كيف نقرأ، وماذا نقرأ، ومتى نتوقف. أن نسترجع حقنا في أن نُبطئ، أن نشكك، وأن نختار ما يستحق انتباهنا.
فالبقاء على قيد الوعي، دون الانزلاق إلى الهلاك النفسي، هو معركة هذا العصر.
والمعرفة، رغم ألمها، تظل طريقًا إلى المعنى
لأن من يعرف ثم يختار ألا يشعر، يفقد شيئًا أكبر من المعلومة ..يفقد إنسانيته..