حسام الحوراني : الأطفال والذكاء الاصطناعي: بين الترفيه والتوجيه الخفي

في زاوية من زوايا أحد المنازل، يجلس طفل صغير لا يتجاوز عمره السبع سنوات، يحدّق في شاشة لوحية صغيرة، يتحاور مع مساعد ذكي يجيبه بصوت دافئ، يروي له القصص، ويقترح عليه ألعابًا وتعليمات. يبدو المشهد مألوفًا، وربما مطمئنًا في ظاهره، لكنه يخفي خلف واجهته البريئة عالماً معقدًا من التأثيرات، والتوجيهات الخفية، والمعايير الخوارزمية التي قد تُشكّل وعي الطفل وتعيد برمجة تصوراته، من دون أن يدرك هو أو والديه. فالذكاء الاصطناعي، وإن جاء بوجه مرح ومحبب، إلا أنه قد يحمل في طيّاته قوى ناعمة تزرع ما لا يُرى، وتغيّر ما لا يُقال.
لم يعد الأطفال يتلقّون المعلومات فقط من الكتب أو من المدرسة أو من الوالدين. لقد أصبحوا جزءًا من منظومة ذكية تتفاعل معهم لحظة بلحظة، ترصد ما يحبونه، وتتعلم من اختياراتهم، وتوجههم نحو محتوى معين دون غيره. أدوات الذكاء الاصطناعي باتت تقرأ تعبيرات وجوههم، وتفسّر أصواتهم، وتعرف متى يملّون ومتى يتحمسون. إنها ليست مجرد تطبيقات تعليمية أو منصات ترفيه، بل بيئة شاملة تعيد تشكيل الطفولة ذاتها.
الفرص المتاحة عبر هذه التقنية مبهرة. يمكن للذكاء الاصطناعي أن يساعد الأطفال في تعلّم اللغات، واستكشاف الكون، وحل المعادلات الرياضية، وحتى في تنمية مهارات التفكير النقدي والإبداع. تخيل طفلًا يتفاعل مع روبوت تعليمي يشرح له قوانين الفيزياء من خلال تجربة افتراضية مبهجة، أو يتعلم كتابة القصص عبر مساعد ذكي يفهم لغته ويصحح له بلطف. هذه التكنولوجيا يمكن أن تكون جسرًا رائعًا نحو تعليم أكثر تخصيصًا، يلائم مستوى كل طفل وسرعة تعلمه واهتماماته.
لكن، في الجانب الآخر من الصورة، يكمن سؤال خطير: من يوجّه هذا الذكاء؟ ومن يقرر ما يجب أن يتعلمه الطفل وما لا يجب؟ وما هي المعايير التي تُبنى عليها الخوارزميات التي تتحاور معه؟ التوجيه الخفي قد لا يكون مقصودًا، لكنه حقيقي. فإذا كانت النماذج الذكية مبنية على بيانات غربية، فهي ستنقل للطفل أنماط حياة، وقيمًا، ومفاهيم لا تنتمي إلى مجتمعه بالضرورة. وإذا كانت الشركات الكبرى هي من تصمم هذه النماذج، فهي ستهتم أولًا بجذب انتباهه، لا بتربيته. وسيتحول الذكاء الاصطناعي من أداة للتمكين، إلى وسيلة لصناعة المستهلك الصغير، المربوط دائمًا بما هو «مقترح» و»مفضل» و»شائع».
الأمر لا يتعلق بالنية، بل بالنتيجة. طفل اليوم يتعلم من الذكاء الاصطناعي أكثر مما يتعلم من معلمه. وإذا لم نكن حاضرين كمجتمعات وأسر ومؤسسات تربوية لصياغة هذه العلاقة بحذر، فإننا نخاطر بجيل يتشكّل في الظل، من خلال تغذية محتوى لا نراقبه، وقيم لا نعرف مصدرها، وخيارات تصنعها خوارزميات لا نسأل عن دوافعها. الذكاء الاصطناعي لا يوجّه فقط ما يشاهده الطفل، بل كيف يفكر، وكيف يقيّم، وكيف يشعر تجاه ذاته والآخر.
نحن بحاجة إلى نهضة تربوية وثقافية شاملة تواكب هذا التغير. يجب أن نعيد تعريف دورنا كمربين في عصر تتوزع فيه السلطة المعرفية بين البشر والآلات. يجب أن نشارك في تطوير محتوى عربي ذكي يعكس لغتنا، وهويتنا، وقيمنا. يجب أن نُعلّم أطفالنا كيف يتعاملون مع الذكاء الاصطناعي بوعي، كيف يسألون الأسئلة الصحيحة، وكيف يفرّقون بين ما يُعرض عليهم وبين ما يختارونه بحرية. إن التربية الرقمية لم تعد خيارًا، بل ضرورة وجودية في زمن تتداخل فيه الحقيقة بالافتراضي.
الأطفال هم أكثر الفئات تأثرًا بالذكاء الاصطناعي، وهم أيضًا أكثر من يمكن أن يتعلم بسرعة ويتفاعل بذكاء. إنهم يشكلون الجيل الذي سيعيش في عالم تصنعه الخوارزميات من حولهم. فهل نريد لهم أن يكونوا مجرّد متلقين سلبيين؟ أم نريدهم أن يكونوا قادة لهذا المستقبل؟ الجواب ليس في التقنية، بل في الوعي. في قدرتنا نحن كأهالٍ، ومعلمين، ومجتمعات على بناء جسور بين الطفولة والذكاء، بين اللعب والمعنى، بين الانبهار والتوجيه.
الذكاء الاصطناعي أداة، لكنها في يد الطفل تصبح مرآة. فلتكن هذه المرآة صافية، تعكس له صورته الحقيقية، وتفتح له أبواب الإبداع والمعرفة، لا أبواب الاستلاب والانقياد. فالأطفال ليسوا فقط مستقبلنا... بل مرآتنا الصادقة، وعهدنا الذي لا يُغفر لنا إن خذلناه.