حسام الحوراني : الذكاء الاصطناعي وعلم التغذية: عندما تصبح الخوارزميات شريكاً في صحتك

في عصر أصبحت فيه التكنولوجيا محور الحياة اليومية، لم يعد الذكاء الاصطناعي حكرًا على الروبوتات والمصانع والسيارات ذاتية القيادة، بل أصبح يدخل في أدق تفاصيل حياتنا، بما في ذلك ما نأكله وكيف نأكله. نحن نشهد اليوم تقاطعًا فريدًا بين علم التغذية والذكاء الاصطناعي، يفتح آفاقًا جديدة لفهم أجسامنا، وتحسين عاداتنا الغذائية، والوقاية من الأمراض المزمنة بطرق لم تكن ممكنة من قبل.
لطالما كان علم التغذية يعتمد على الدراسات السكانية، والاستبيانات، والملاحظات العامة، وهو ما يجعله أحيانًا غير دقيق عند تطبيقه على الأفراد. فكل جسم بشري له خصوصيته، من حيث الجينات، ونمط الحياة، ومستوى النشاط البدني، والحالة الصحية العامة. هنا يأتي دور الذكاء الاصطناعي، الذي يمنح هذا العلم أدوات تحليل غير مسبوقة، تسمح بفهم أعمق وأكثر تخصيصًا لحاجات كل إنسان على حدة.
بفضل تقنيات الذكاء الاصطناعي، بات بالإمكان تحليل آلاف البيانات الشخصية – من نتائج الفحوصات الطبية، إلى الجينات، إلى نمط النوم، إلى الحركة اليومية – وربطها مع قواعد بيانات ضخمة من الأبحاث الغذائية والطبية. النتيجة؟ توصيات غذائية دقيقة، مخصصة، وواقعية، تُراعي ما يحتاجه كل فرد فعلًا، وليس ما يُنصح به عامة الناس.
تخيل أن لديك تطبيقًا على هاتفك، يراقب خطواتك، ومعدّل نومك، وحالتك المزاجية، ويتكامل مع فحوصاتك المخبرية، ليخبرك يوميًا بما يجب أن تأكله، وبالكمية المناسبة، وفي الوقت الأنسب. هذا ليس خيالًا علميًا، بل واقعًا يُطوّر بسرعة في مراكز الأبحاث والشركات الناشئة حول العالم.
أحد أبرز التطبيقات الحالية يتمثل في استخدام الذكاء الاصطناعي لتطوير أنظمة تغذية وقائية. فبدلًا من انتظار حدوث مرض كالسكري أو أمراض القلب، يمكن للخوارزميات تحليل المؤشرات الحيوية والتغذوية، والتنبؤ بالاحتمالات المستقبلية، وتقديم خطط غذائية تساعد في تجنّب الإصابة. هذه الخطوة تغيّر جذريًا فلسفة الطب الغذائي، من العلاج بعد المرض إلى الوقاية قبل ظهور الأعراض.
كما يُستخدم الذكاء الاصطناعي في تصميم وجبات غذائية مخصصة للرياضيين، والحوامل، وكبار السن، والأطفال، وحتى للمرضى الذين يعانون من حالات معقّدة مثل السرطان أو أمراض الجهاز الهضمي. يُمكن للخوارزميات أن تراعي كافة الظروف الصحية والعلاجية، وتُقدم نماذج تغذية متكاملة وآمنة، تتماشى مع الأهداف الطبية والبدنية.
أما على المستوى الصناعي، فيُسهم الذكاء الاصطناعي في تطوير منتجات غذائية جديدة تُلبي احتياجات السوق بطريقة أكثر دقة. من خلال تحليل اتجاهات الاستهلاك العالمية، وتفضيلات المستهلكين، والبيانات المناخية والزراعية، يمكن للشركات إنتاج أغذية أكثر استدامة وصحة وابتكارًا، مع تقليل الهدر وزيادة الكفاءة.
لكن كما في كل مجال، لا تخلو هذه الثورة من التحديات. أحد أبرز المخاوف هو خصوصية البيانات، فالتغذية الشخصية المبنية على الذكاء الاصطناعي تتطلب جمع كمّ هائل من المعلومات الصحية والحميمية عن الأفراد. وبالتالي، يجب أن تُطوّر أُطر قانونية وأخلاقية تضمن أن تُستخدم هذه البيانات فقط لخدمة الصحة، لا للاستغلال التجاري أو التأمين التمييزي.
كذلك، تبقى الفجوة الرقمية تحديًا حقيقيًا. فالوصول إلى هذا النوع المتقدم من الرعاية التغذوية لا يزال محصورًا في طبقات اجتماعية قادرة على استخدام التكنولوجيا الحديثة. من الضروري العمل على تعميم الفائدة، وجعل أدوات الذكاء الاصطناعي في التغذية متاحة للجميع، خاصةً في المجتمعات التي تعاني من سوء التغذية أو من ارتفاع معدلات الأمراض المزمنة.
ومن الناحية العلمية، لا يزال علم التغذية نفسه يتطور، ولا يمكن دائمًا الاعتماد على الذكاء الاصطناعي إذا لم تكن البيانات الأصلية التي يتعلم منها دقيقة أو محدثة أو غير متحيزة. وهنا تتجلى أهمية الجمع بين الخبرة البشرية والذكاء الاصطناعي، لتحقيق أفضل النتائج الممكنة.
في النهاية، يمكن القول إن الذكاء الاصطناعي لا يهدف إلى أن يحل محل اختصاصيي التغذية، بل إلى أن يكون شريكًا ذكيًا يُعزز من قدراتهم، ويوفر لهم أدوات تحليلية أدق، ويساعد الأفراد على اتخاذ قرارات غذائية مبنية على العلم، وليس على التقاليد أو العشوائية. إن المستقبل الذي تُمليه هذه التكنولوجيا ليس مجرد مستقبل من الحميات والمكملات، بل مستقبل تكون فيه التغذية متكاملة مع الصحة العامة، النفسية، والجسدية، ويكون لكل فرد «نظام غذائي خاص به»، مصمم بواسطة علم وخوارزميات، ومُراقب في الوقت الحقيقي.
إنه عصر جديد تُصبح فيه الجملة الشهيرة «أنت ما تأكل» أكثر دقة وواقعية، بفضل الذكاء الاصطناعي.