د. محمد العرب : الزمن: وهمٌ نركض خلفه حتى يفترسنا

الزمن ليس بريئاً نعم هذه من المسلمات، الزمن ليس ذاك الجدول الهامس الذي يغني على ضفاف الدقائق، ولا ذاك الغيم الرقيق الذي يمرّ فوق رؤوسنا في سكون !
الزمن أيها القارئ كائن مفترس لم يولد في رحم الخلود، بل خرج صارخاً من صدمة الانفجار العظيم، يلهث، يعدّ أنفاس الكون، ويوقّع على نهاياته منذ لحظته الأولى، لا شيء يُولد إلا وهو موقّع بعقد مع الزمن، عقد لا يُجدد، لا يُفسخ، لا يُمهل.
نحن لا نفكر فيه إلا حين ينهشنا، حين ينتزع منّا الأحبة، أو يسلبنا الشباب، أو يجعلنا نحدق طويلاً في مرايا لا تعرفنا، لكنه كان موجوداً قبل أن نتعلم الصراخ، قبل أن نعرف المعنى، وقبل أن نضع أسماء على الأشياء، وفي ذلك السؤال الذي يُقلق الفلاسفة منذ آلاف السنين: هل للزمن بداية؟ تكمن كل نوايانا، كل عنجهيتنا، كل ضعفنا المقنّع بالمعرفة.
نعم، للزمن بداية وهذا ليس رأياً، بل صفعة علمية، الانفجار العظيم لم يكن مجرد إطلاق نار في فراغ، بل شرارة الزمن نفسه، لم تكن هناك (قبل) كما نتوهم، لأن (القبل) لا وجود لها دون زمن، الكون نفسه كان كثافة مطلقة بلا قياس، لا زمن فيها ولا حتى سؤال. اللحظة التي بدأ فيها التمدد، هي اللحظة التي ولد فيها الزمن ولد مثلنا، يبكي، ينهش، ينمو، ويقسو.
لكن هذا الجواب لا يرضي الإنسان. نحن لا نحب أن يُقال لنا إن هناك (بداية) لا نفهمها !
نريد أن نضع أيدينا داخل رحم البداية، أن نتحكم بولادة كل شيء، أن نخترع ما قبل البداية، ولو على حساب المنطق. لذلك يتخبط بعضهم في نظريات الأوتار، والأكوان المتعددة، والفراغات الزمنية التي لا نراها. نبحث عن مخرج لكن لا مخرج من البداية.
الزمن لا يرحم أيضاً من ينكره وكل من أراد أن يعبث بفكرته أو يجمّله، انتهى به الأمر مأكولاً في صمت ؟
الفراعنة بنوا مقابرهم بألف طريقة ليكسروا قبضة الزمن، لكنهم صاروا مادة في كتب التاريخ ونيتشه صرخ أن الزمن دائري وأن كل شيء سيعود لكنه انتهى منكمشاً في جنونه، غير قادر حتى على إدراك مروره. وحتى أعظم منظّري النسبية، أينشتاين، قال بوضوح: الزمن وهم لكنه وهم عنيد !
والآن، قل لي: هل الزمن يسير، أم نحن من نُساق؟ هل نحياه، أم نحن مجرد أرقام تمشي على سطره نحو محو حتمي؟ عندما يولد الزمن، لا يولد وحده، بل يولد معه حكم الإعدام على كل شيء: الأفكار، المدن، وحتى الأسئلة.
البداية الحقيقية للزمن لم تكن لحظة فيزيائية فقط بل لحظة طرد. طُرد العدم، وانبثق الكون، ووقع علينا حكم الحساب.
إن كنت تعتقد أن للزمن قلباً، فأنت مخطئ، للزمن حدّة، وبرود، وغضب لكنه بلا قلب. لا يعترف بالحب، ولا العدل، ولا الفضيلة. كل شيء عنده مؤقت، وكل مؤقت محكوم بالسقوط.
فلا تسألني من أين بدأ الزمن، بل اسأل نفسك: كم بقي لك من هذا الوحش قبل أن يأكلك؟
ختاماً الزمن لم يكن يوماً رفيقاً، ولا صديقاً، ولا حتى خصماً نزيهاً، هو السطر الذي كُتبنا عليه ثم شُطِبنا منه دون إذن، نحن لا نملك الزمن نحن فقط نقترضه، ولكل منا موعد مع لحظة الاستحقاق، لحظة السقوط من سطر الوجود، لحظة تُعيد كل شيء إلى حقيقته:
أن كل شيء هالك، إلا وجهه.
قال تعالى «كُلُّ شَيْءٍ هَالِكٌ إِلَّا وَجْهَهُ»
صدق الله العظيم
ــ الدستور