د. محمد العرب : هل الجنون حقيقة أم خرافة؟

الجنون، تلك الكلمة التي تحمل في طياتها مزيجاً من الخوف، الفضول، والرفض، لا تُعد مجرد وصف لحالة نفسية أو خروج عن العقلانية، بل هي مفهوم متجذر في النظم الثقافية والاجتماعية التي صنعتها الإنسانية. عند النظر إلى الجنون من زاوية فلسفية، يتبدى سؤال محوري: هل الجنون حالة موضوعية يمكن قياسها، أم أنه مجرد بناء اجتماعي وُضع لتسمية ما لا نستطيع فهمه؟
منذ القدم، كان الجنون مرآة تعكس رؤية المجتمعات لما هو طبيعي وغير طبيعي. في العصور الوسطى، كان من يُظهر سلوكاً غير مألوف يُعتبر ممسوساً أو منبوذاً ، ويُعزل عن المجتمع. أما في عصر التنوير، فقد أصبح الجنون محصورا في نطاق المرض النفسي الذي يحتاج إلى تقويم أو علاج. ومع ذلك، فإن هذا التحول لم يلغِ الطبيعة النسبية للمفهوم. ما يُعتبر اليوم اضطراباً نفسياً قد يكون غداً تجربة إنسانية مشروعة، بل وربما مُلهمة.
ميشيل فوكو، في كتابه (تاريخ الجنون) كشف عن أن الجنون لم يكن يوماً حالة بيولوجية بحتة، بل كان أداة تستخدمها السلطة لتصنيف الأفراد الذين يتحدّون النظام القائم. الجنون، وفقاً لفوكو، لم يكن إلا اختراعاً ثقافياً لحماية (العقلانية) التي تمثل النظام السائد. من هذه الزاوية، يصبح الجنون مرآةً تُظهر هشاشة النظم الاجتماعية التي تخشى ما يهدد استقرارها.
لكن، ماذا لو كان الجنون مجرد زاوية أخرى من الإدراك؟ الفيلسوف نيتشه رأى في الجنون انفجاراً للإبداع. بالنسبة له، الجنون ليس مرضاً بل حالة من التحرر، تحطيماً للأطر العقلانية التي تُكبّل الروح الإنسانية. فالعقل التقليدي، الذي يقدس المنطق، قد لا يكون دائماً قادراً على استيعاب العمق الكامن في التجارب الإنسانية التي يصفها بالجنون. ربما يكون من نعتبرهم (مجانين) اليوم هم الذين يفتحون لنا أبواب الإدراك غداً..!
وهنا يبرز السؤال: إذا كان الجنون نسبياً ، فهل هو موجود أصلاً؟ الفيلسوف لودفيغ فيتغنشتاين، من خلال فلسفته اللغوية، أشار إلى أن المعاني ليست مطلقة، بل تُبنى عبر السياق الاجتماعي. إذاً، الجنون ليس إلا كلمة تحمل دلالات متغيرة، تُستخدم لتسمية ما لا يتماشى مع المعايير السائدة. بمعنى آخر، الجنون قد يكون خرافة لغوية أكثر من كونه حقيقة.
في العصر الحديث، بدأنا نشهد تحولات جذرية في كيفية فهمنا للجنون. علم النفس الحديث لا يركز فقط على العلاج، بل يسعى لفهم التجارب الإنسانية التي تُعتبر غير عادية. اضطرابات مثل الشيزوفرينيا أو الاضطراب الثنائي القطب لم تعد تُرى كأمراض فقط، بل كتجارب فريدة تنطوي على رؤى مختلفة للعالم. هذه النظرة الجديدة تجعل من الجنون حالة إنسانية معقدة، لا يمكن تقزيمها إلى مجرد خلل يحتاج إلى إصلاح.
اعتقد أن الجنون بمفهومه السائد ليس حقيقة موضوعية يمكن قياسها أو حصرها، بل هو بناء ثقافي واجتماعي يعكس مخاوفنا ورغبتنا في الحفاظ على (النظام) ربما حان الوقت للتخلي عن سؤال هل الجنون موجود؟ لصالح سؤال أكثر عمقاً: ما الذي يجعلنا نعتبر شيئاً ما جنوناً؟ الإجابة على هذا السؤال تكشف الكثير عن طبيعتنا البشرية، عن حدود عقولنا، وعن حاجتنا الدائمة لتصنيف ما نخشى مواجهته. ــ الدستور