محمود الدباس : أين الدولة من القطاع الطبي في الأردن .. والقنبلة الموقوتة .. التي تُنذر بالخطر؟! ..
محمود الدباس ــ ابو الليث :
في وقت كان فيه القطاع الطبي الأردني يُعدّ نموذجاً عالمياً يحتذى به.. وركناً رئيسياُ من أركان الفخر الوطني.. نجد أنفسنا اليوم أمام أزمة متعددة الأوجه.. تهدد هذا الصرح العظيم.. فالحديث عن الكفاءات الطبية الأردنية.. وسمعتها العابرة للحدود.. ليس مبالغة ولا مجاملة.. بل واقع تُترجمه قصص.. وشهادات من أصقاع الأرض.. حيث تُذكر أسماء أطبائنا باحترام وإعجاب في محافل طبية عالمية.. ومع ذلك.. يواجه هذا القطاع تحديات كبيرة.. تضعه على حافة الانهيار.. إذا لم يُتدارك الوضع سريعا..
ونحن في ملتقى النخبة-elite.. لا نقف عند الامور متفرجين.. فطرقنا باب نقابة الاطباء.. والتقينا نقيب الاطباء.. وفي حوارٍ عميقٍ استمر عدة ساعات.. فتح لنا النقيب معظم ملفات النقابة.. وما بين حديث ايجابي مبشر.. وآخر يدمي العين ويعتصر القلب ألماً.. استطعت ان اخلص بهذه الخلاصة..
منذ عام 2008.. واللائحة الرسمية لأجور الأطباء ثابتة في مكانها.. بينما شركات التأمين رفعت أقساطها بنسب تصل إلى 250%.. مفارقة صارخة.. تُظهر جلياُ الخلل العميق.. في العلاقة بين الطرفين.. فعلى الرغم من أن شركات التأمين استفادت من هذا الارتفاع بشكل كبير.. لم ينعكس ذلك على الأطباء.. الذين يعانون ضغطاً هائلاً في ظل ارتفاع كلف التشغيل.. والضرائب ودخول العديد من الإجراءات الطبية الحديثة..
وعلينا ان نعي بأن ارتفاع كُلف التشغيل.. والقيود المفروضة على تأشيرات الجنسيات المقيدة.. أثر بشكل مباشر وكبير على قدرة الأردن.. على استقطاب المرضى من الدول العربية المجاورة.. الأمر الذي أدى إلى تراجع السياحة العلاجية بشكل ملحوظ.. وبالتالي إغلاق العديد من العيادات والمستشفيات..
النقطة الأشد إيلاماً.. تكمن في العدد الهائل من خريجي كليات الطب المتوقع تخرجهم خلال السنوات الخمس القادمة.. إذ سيتضاعف عدد الأطباء المسجلين منذ تأسيس نقابة الأطباء.. ما يعني أن عشرات الآلاف من الشباب خريجي الطب.. سيجدون أنفسهم في طابور البطالة الطويل.. ما لم تتخذ الدولة خطوات جدية لتأهيلهم.. وفتح الآفاق أمامهم.. داخلياً من خلال تفعيل دور القطاع الطبي.. وتعزيز فرص العمل.. وخارجياً عبر تأهيلهم لغوياً ومعرفياُ.. ليكونوا قادرين على دخول الأسواق الأوروبية.. والأمريكية.. بكفاءة واقتدار..
إن هذه الأزمة ليست مسؤولية الحكومة وحدها.. بل هي شأن وطني.. يتطلب تضافر جميع الجهود على مستوى الدولة.. بمختلف مفاصلها.. إذ لا يمكن إنقاذ هذا القطاع.. دون استراتيجية شاملة ومتكاملة.. تبدأ بإعادة النظر في القوانين والإجراءات.. التي تعرقل استقطاب المرضى.. وتنتهي بتطوير العلاقة بين القطاعين العام والخاص.. بشكل غير تقليدي.. وافكار ريادية خلاقة.. استجابة لتوجيهات جلالة الملك.. بتوفير التأمين الصحي الشامل.. بحلول عام 2030..
وهنا لابد من العمل من قبل الدولة.. على تسويق القطاع الطبي الأردني.. دولياُ بشكل أكثر فاعلية.. عبر دعوة وزراء الصحة والمسؤولين عن الملف الطبي من الدول المستهدفة.. وتعريفهم بالإمكانات الطبية.. والبنية التحتية لدينا.. بجولات عملية.. تُظهر الواقع.. بدلاً من الاكتفاء بالوعود النظرية.. كما يجب تعزيز العلاقة بين شركات التأمين والأطباء.. لضمان تحقيق العدالة للجميع.. خاصة في ظل الارتفاع غير المبرر لأقساط التأمين.. الذي لا يعود بفائدة على الأطباء ولا المرضى..
إن القطاع الطبي الأردني ليس مجرد مهنة.. أو مجال عمل.. بل هو أحد أعمدة الاقتصاد الوطني.. ومصدر اعتزاز كبير للأردنيين.. وإن أي تهاون في معالجة مشكلاته.. سيؤدي -لا سمح الله- إلى خسارة هذا الكنز.. الذي لا يُقدّر بثمن.. فالأمر ليس مجرد تحسين ظروف الأطباء.. أو تخفيف العبء عن المواطنين.. بل هو الحفاظ على هوية وطنية.. تُجسد قيّم الريادة والتميز..
إن استمرار الوضع الحالي.. دون حلول جذرية وشاملة.. سيضع القطاع الطبي أمام كارثة محققة.. لن ينجو منها أحد.. لا المرضى الذين سيجدون أنفسهم أمام أعباء مادية لا تُحتمل.. ولا الأطباء الذين سيغرقون في البطالة.. أو يبحثون عن فرصة خارج حدود الوطن.. ولا الدولة التي ستخسر أحد أعظم مصادر قوتها.. وهويتها الوطنية.. وعليه.. فإننا ندعو كل من يملك القرار.. وكل من بيده التأثير.. أن يضع هذا الملف على رأس الأولويات.. وأن يتعامل معه ليس كقضية طبية فقط.. بل كأزمة وطنية.. تحتاج لحلول عاجلة.. قبل أن تنفجر القنبلة الموقوتة.. وتُفقدنا إرثاً بنيناه بجهود أجيال.. وأرواح طاهرة..