أ. د. هاني الضمور : عبادة الأفراد أم عبادة الوطن: قراءة في ميزان العقل والحق
إن في صفحات التاريخ حكايات تحاكي النفس البشرية في سموها وانحدارها، وتكشف الغطاء عن حقيقة الارتباط بين الشعوب وقادتها. فالله سبحانه وتعالى خلق الإنسان عاقلاً، مكلفاً، مسؤولاً عن خياراته، لكنه حذرنا في كتابه الكريم من الوقوع في شَرَك عبادة البشر أو ربط مصير الأمم بأفراد زائلين. إن القادة، مهما علت مكانتهم، يبقون بشراً لا يملكون من أمرهم شيئاً، وما الوطن إلا أمانة منحها الله لأبنائه ليعمروه بالعدل والعمل، لا ليحرقوه في سبيل فرد أو سلطة.
الإسكندر الأكبر، ذاك الفاتح الذي حمل أحلامه على ظهور الجيوش وسار بها من مقدونيا إلى الهند، كان مثالاً للإنجازات الفردية العظيمة. لكنه حين رحل، تلاشت إمبراطوريته كما يتلاشى السراب. وما هذا إلا شاهد على أن الأمم التي لا تبني مؤسساتها على أسس العدل والشورى تذوي بمجرد غياب قائدها. أما نبوخذ نصر، الذي علا شأنه وأقام صروحاً عظيمة في بابل، فقد أثبت التاريخ أن عظمته كانت فردية، وأن الإمبراطورية التي أسسها سقطت عندما افتقدت الحكمة التي تضمن لها البقاء. وهذا مصير كل أمة تركن إلى زهو الفرد بدلاً من الاعتماد على نظام يُدرك أن القوة الحقيقية في العدل، لا في الأشخاص.
وفي مصر القديمة، كان رمسيس الثاني فرعوناً عظيماً في إنجازاته، لكنه لم يكن وحده سر بقاء مصر. فاستمرارية تلك الحضارة كانت بفضل نظام إداري قوي تركه الفراعنة، وشعب يتمسك بجذوره. كذلك يوليوس قيصر، الذي اغتيل في أوج قوته، ورغم ذلك لم تتوقف عجلة التاريخ في روما. بل استمرت الدولة لتتحول إلى إمبراطورية عظيمة، لأن الأساس الذي بُنيت عليه كان أقوى من أي شخص.
غير بعيد عن ذلك، نجد كليوباترا، تلك الملكة التي جُعلت رمزاً للجمال والحكمة، لكنها ربطت مصير وطنها بأهوائها السياسية وعلاقاتها الشخصية مع روما. كانت النتيجة أن مصر البطلمية أُلحقت بالإمبراطورية الرومانية، وكأن درسها يصرخ في آذاننا: الأوطان التي تُقاد بالعاطفة والولاء للأفراد تُفقد استقلالها أمام أول اختبار.
حمورابي، ملك بابل العظيم، كان نموذجاً آخر للعقل الإنساني عندما أرسى قوانين تضمن العدالة. ورغم وفاته، ظل إرثه القانوني مرجعاً لحضارات لاحقة. إن ما قدمه حمورابي يذكرنا أن البقاء لا يكون بالأسماء، بل بما يتركه القادة من نظم تحمي حقوق الناس وتُقيم العدل بينهم. وكسرى الأول، الذي لُقب بالعادل، حقق لإمبراطوريته الساسانية نجاحات باهرة، لكن عدالته لم تكن كافية لضمان بقاء الدولة بعد وفاته، لأن المؤسسات، لا الأفراد، هي التي تحكم المصير.
كل هذه الأمثلة تذكرنا بحقيقة ربانية أزلية: أن الله لا يربط مصير الأمم بعباده، مهما عظم شأنهم. القادة زائلون، لكن القيم التي أرساها الله لعباده هي التي تبقى. قال الله تعالى: "وَمَا مُحَمَّدٌ إِلَّا رَسُولٌ قَدْ خَلَتْ مِن قَبْلِهِ الرُّسُلُ ۚ أَفَإِن مَّاتَ أَوْ قُتِلَ انقَلَبْتُمْ عَلَىٰ أَعْقَابِكُمْ ۚ وَمَن يَنقَلِبْ عَلَىٰ عَقِبَيْهِ فَلَن يَضُرَّ اللَّهَ شَيْئًا ۗ وَسَيَجْزِي اللَّهُ الشَّاكِرِينَ”. هذه الآية تعلن بوضوح أن أعظم البشر، خاتم الأنبياء محمد صلى الله عليه وسلم، رحل ولم تتوقف رسالة الإسلام، لأن الحق لا يرتبط بالبشر بل بالقيم الإلهية التي زرعها الله في الأرض.
إن القادة هبات من الله لتسيير شؤون الأمم، لكن ربط مصير الأوطان بهم هو ضرب من عبادة البشر التي تُغضب الله وتُهلك الأمم. فالأوطان تُبنى على العدل والعمل، لا على أسماء القادة وصورهم. ولو تأملنا بعقولنا، لوجدنا أن الحكمة الربانية تدعونا لنضع ثقتنا في نظام يُقيم العدل والشورى، لا في أفراد يفنون مع الزمن.
فليكن الوطن لله، ولتكن عبادتنا له وحده، فهو الحي الباقي الذي لا يزول. وما علينا إلا أن نكون أمناء على هذه الأوطان التي هي اختبار لوعي البشر وإيمانهم بحكمته.