الأخبار

أ. د. هاني الضمور : سقوط الأنظمة عبر التاريخ: قراءة علمية في دروس الماضي والحاضر

أ. د. هاني الضمور : سقوط الأنظمة عبر التاريخ: قراءة علمية في دروس الماضي والحاضر
أخبارنا :  

عبر التاريخ، لم يكن سقوط الأنظمة السياسية حدثًا مفاجئًا أو نتيجة لظروف عابرة، بل دائمًا ما كان نتيجة تراكمات طويلة من الأخطاء السياسية والاجتماعية والاقتصادية، مقترنة بعجز تلك الأنظمة عن التكيف مع تغيرات الواقع الداخلي والخارجي. علميًا، يُنظر إلى الأنظمة السياسية باعتبارها نظمًا معقدة تتطلب توازنًا بين القوة الشرعية، الاستجابة لمطالب الشعوب، وإدارة الموارد. عندما يختل هذا التوازن، تبدأ الأنظمة في الانهيار تدريجيًا حتى تصل إلى نقطة اللاعودة. تجربة سوريا الحديثة تقدم نموذجًا حيويًا لفهم هذا المسار التاريخي.

من منظور تاريخي، الأنظمة التي تُكمم الأفواه وتمنع حرية التعبير تُعيد إنتاج نفس الأخطاء التي ارتكبتها أنظمة سابقة على مر العصور. الإمبراطوريات الكبرى مثل الإمبراطورية الرومانية أو النظام الملكي في فرنسا قبل الثورة الفرنسية شهدت سقوطًا مشابهًا عندما فقدت شرعيتها الشعبية بسبب تجاهل حاجات مواطنيها وتبني سياسات قمعية أو استغلالية. هذه الأنظمة اعتمدت على فرض السيطرة بالقوة العسكرية وقمع المعارضين، لكنها فشلت في مواجهة أزمات اقتصادية واجتماعية عميقة، ما أدى إلى تمرد الشعوب وسقوطها في النهاية.

سوريا تمثل حالة حديثة تكررت فيها هذه الأنماط التاريخية. النظام الذي كان يعتمد على سياسات مركزية شديدة القمع وإغلاق المجال العام أمام أي أصوات معارضة، وجد نفسه معزولًا تمامًا عن شعبه. منذ اندلاع الاحتجاجات في عام 2011، كان يمكن للنظام أن يتبنى نهجًا إصلاحيًا يستجيب للمطالب الشعبية. لكن القمع العنيف، الذي ربما كان يهدف إلى فرض الاستقرار، أدى إلى نتائج عكسية. قمع الحريات يجعل النظام غير قادر على فهم مشكلات شعبه أو معالجة جذور التوترات الاجتماعية والاقتصادية. هذا الفشل يعمق الفجوة بين السلطة والشعب، وهو ما تؤكده النظريات العلمية التي تربط بين تآكل الشرعية السياسية وزيادة احتمالية التمرد أو الثورة.

اقتصاديًا، تُظهر الدراسات أن الأنظمة التي تفشل في توفير احتياجات مواطنيها الأساسية وتسمح بانتشار الفساد وسوء الإدارة تصبح عرضة للسقوط. في الحالة السورية، العقوبات الاقتصادية الدولية، إلى جانب الفساد المستشري داخل النظام، جعلت الحياة اليومية للمواطنين شبه مستحيلة. علم الاجتماع السياسي يوضح أن الأزمات الاقتصادية ليست فقط نتيجة للصراعات، بل يمكن أن تكون المحرك الأساسي للثورات إذا شعرت الطبقات الفقيرة والمتوسطة بأنها تُدفع إلى الهامش من قبل النخبة الحاكمة.

العوامل الإقليمية والدولية أيضًا تلعب دورًا حاسمًا في تحديد مصير الأنظمة. الأنظمة السياسية التي تعتمد بشكل مفرط على دعم خارجي، دون بناء قاعدة داخلية متينة، تصبح عرضة للانهيار عند تغير الظروف الجيوسياسية. النظام السوري، الذي كان يعتمد بشكل كبير على دعم روسيا وإيران، وجد نفسه في موقف ضعيف عندما بدأت أولويات حلفائه تتغير بفعل أزماتهم الداخلية والصراعات الإقليمية الأخرى. هذا يتوافق مع النظريات التاريخية التي تؤكد أن الاعتماد المفرط على التحالفات الخارجية يجعل الأنظمة عرضة للانهيار عند أول اختبار.

من الناحية العلمية، هناك مفهوم يُعرف بـ»ديناميكيات الانهيار»، حيث تُظهر النظم السياسية علامات ضعف تدريجي على مدار فترات طويلة قبل أن تنهار بشكل مفاجئ. القمع، ضعف الشرعية، الأزمات الاقتصادية، والانقسامات الداخلية هي عوامل تضعف قدرة النظام على التكيف مع الضغوط المتزايدة. في سوريا، هذه العوامل اجتمعت في وقت واحد، مما أدى إلى انهيار النظام بصورة سريعة.

الدروس المستفادة من التاريخ وسوريا على وجه الخصوص واضحة. الأنظمة التي تُركز على القوة والقمع بدلاً من الإصلاح والاستجابة لحاجات الشعوب تكتب نهايتها بيدها. الإصلاح السياسي والاجتماعي، والاستثمار في التنمية الاقتصادية، وتبني نهج شامل يفتح المجال لحرية التعبير والمشاركة الشعبية هي الأدوات الأساسية لبقاء الأنظمة. الفشل في تبني هذه الأدوات يجعل النظام عرضة لتكرار السيناريوهات التاريخية التي رأيناها في سقوط إمبراطوريات وممالك وحتى أنظمة حديثة.

ختامًا، سقوط الأنظمة ليس صدفة تاريخية بل نتيجة لقوانين اجتماعية وسياسية واقتصادية واضحة. الأنظمة التي تفهم هذه القوانين وتستجيب لها بمرونة تضمن لنفسها البقاء، أما التي تتجاهلها فمصيرها المحتوم هو الانهيار. سوريا ليست سوى المثال الأحدث، والأنظمة الحالية بحاجة إلى التعلم من هذا الدرس قبل أن تكرر الأخطاء ذاتها. ــ الدستور

مواضيع قد تهمك