هاني الهزايمة : التكاليف الخفية للتشرذم في العالم العربي
في المشهد السياسي المضطرب للشرق الأوسط، تبرز التكتيكات الخفية للقوى الخارجية التي أتقنت أدواتها لتعزيز الانقسامات. ما عاد التلاعب يعتمد على أساليب التجنيد المباشر أو الإغراء المالي. بدلاً من ذلك، ظهر نهج أكثر دهاءً يعتمد على إثارة النزاعات الداخلية وتشتيت الانتباه عن القضايا المحورية. هذه الاستراتيجية منخفضة التكلفة، لكنها فعّالة بشكل مقلق، حيث تؤدي إلى استنزاف الموارد وإضعاف الإرادة السياسية للدول العربية.
بدلاً من التركيز على التحديات المشتركة، أصبحت المنطقة مسرحاً لصراعات هامشية أدت إلى تآكل أسس الاستقرار. القوى الخارجية، سواء كانت قوى دولية أو إقليمية، استغلت حالة التشرذم لتعيد رسم خريطة التحالفات والنفوذ بما يخدم مصالحها فقط. للأسف، استنزاف الطاقات في مواجهات داخلية مصطنعة أدى إلى صرف الانتباه عن القضية الأهم، وهي مواجهة الاحتلال وأجندات الهيمنة الاستعمارية.
على مدار أكثر من عقد، تحولت سوريا إلى أرض معركة متعددة الأطراف. النظام السوري نفسه ساهم بوحشيته في تعميق المأساة، إلا أن الأدوار الخارجية عززت هذا التشرذم. إيران وروسيا، بحجة تقديم المساعدات، عمقتا نفوذهما داخل سوريا لتعزيز مصالحهما الجيوسياسية. من ناحية أخرى، فإن تركيا، التي يفترض أن تكون جزءاً من الحل الإقليمي، اختارت نهجاً تصعيدياً لتحقيق أهداف قومية ضيقة، ما زاد من تعقيد الوضع.
التحركات الأخيرة في حلب وحماة توضح مدى تعقيد المشهد، حيث تسعى القوى المختلفة إلى تثبيت نفوذها بينما يدفع الشعب السوري الثمن الأكبر. توقيت التدخلات التركية يثير تساؤلات حول أولوياتها الحقيقية، خاصة في ظل صمتها على القصف الذي تتعرض له غزة ولبنان، ما يجعل تدخلها في سوريا يبدو مدروساً لتعزيز الانقسامات بدلاً من التهدئة.
إن أكثر ما يثير الأسى هو الاعتماد المتكرر للدول العربية على القوى الخارجية لإنقاذها. هذه الأوهام، التي غالباً ما تُغلف بخطابات براقة عن الشراكات والتحالفات، تخفي أجندات لا تتقاطع مع المصالح العربية. القوى الدولية والإقليمية تنظر إلى الشرق الأوسط باعتباره مسرحاً لتحقيق مصالحها، متجاهلة تطلعات شعوب المنطقة نحو السيادة والاستقرار.
حتى التراجع الملحوظ لنفوذ إيران، والذي يُنظر إليه بترحيب نظراً لدورها في تأجيج سياسات الهوية والانقسام، لا يعني نهاية التدخلات الخارجية. بل إنه يفتح الباب أمام جهات أخرى لتعبئة الفراغ، وهو ما حدث مع التحركات التركية الأخيرة التي لا تخدم سوى مصالحها القومية.
في ظل هذه التحديات، يبرز قرار مجلس الأمن رقم 2254 كإطار نظري لحل الأزمة السورية. القرار، الذي يدعو إلى عملية سياسية سورية-سورية، يشدد على أهمية الوحدة الوطنية وضرورة التوصل إلى تسوية شاملة تعيد للسوريين زمام المبادرة. ومع ذلك، يبقى نجاح هذا القرار رهناً بتوافر إرادة سياسية عربية حقيقية لتوحيد الجهود، بعيداً عن الانقسامات التي زرعتها الأطراف الخارجية.
دون التضامن العربي، سيظل هذا القرار وغيره من المبادرات الدولية مجرد وثائق على الورق، تُستغل لتمرير أجندات خارجية أو إطالة أمد النزاع.
الحقيقة التي يجب أن تدركها الدول العربية هي أن وحدتها وقوتها هما السبيل الوحيد لاستعادة مكانتها على الساحة الدولية. كل خطوة نحو الاعتماد على الخارج تُقربها من مزيد من التبعية وتُبعدها عن الكرامة والسيادة.
يتطلب الوضع الراهن إعادة النظر في الأولويات الوطنية والقومية. بدلاً من الانجرار وراء تحالفات تخدم أهدافاً خارجية، يجب توجيه الجهود نحو تحقيق مشروع عربي مشترك يعزز الاستقلال ويضع حداً للتدخلات الأجنبية.
التحديات التي تواجه العالم العربي ليست مستحيلة الحل، لكنها تتطلب شجاعة سياسية وإرادة جماعية. إعادة بناء الثقة بين الدول العربية هي الخطوة الأولى. كما أن الاستثمار في القدرات الذاتية، سواء على المستوى الاقتصادي أو العسكري أو السياسي، ضروري لمواجهة الأطماع الخارجية.
في النهاية، العالم العربي بحاجة إلى مشروع نهضوي جديد يُعيد تعريف أولوياته ويضع الإنسان العربي في قلب العملية التنموية والسياسية. دون ذلك، ستظل المنطقة أسيرة للتشرذم والتبعية، عاجزة عن مواجهة تحدياتها أو استغلال إمكانياتها الهائلة لتحقيق مستقبل أفضل. ــ الراي