الأخبار

د . ماجد الخواجا : تصنيع خبراء الكذب

د . ماجد الخواجا : تصنيع خبراء الكذب
أخبارنا :  

منذ داهمتنا وسائل الاتصال الاجتماعي ونحن نغرق في أردأ وأسفل الانحطاطات الإنسانية. لقد اهتبل الكثيرون الفرصة وركبوا سنام الإنترنت ممتطين أدواته في سبيل تحصيل مساحة مهما وكيفما كانت.

في كتابه ذائع الصيت ( المثقفون المزيفون) تطرق المفكر الفرنسي باسكال بونيفاس بإطناب عن ما أسماه ظاهرة ( صناعة خبراء الكذب) في أروقة الإعلام بطرق ممنهجة، وعن استحواذ هؤلاء المدعومين بلوبيات مؤسسات الإعلام، على كافة المنابر لعرض آراء معينة مخطط لها من قبل. وقسّم باسكال هؤلاء إلى ثلاثة أقسام: الأول: المنخدعون الذين يرتكبون أخطاء كارثية في تحليلاتهم دون قصد. الثاني: الخادعون، وهم من يؤمنون بتوجهات وتوجيهات محددة لكنهم يلفقون لها حجج مزيفة لحشد الناس وراءهم. والأخطر هم الفئة الثالثة: المرتزقة، وهم من يدافعون عن شيء لا يؤمنون به ولكن فقط لأن الدفاع عنه يخدم مصالحهم. وهم مستعدون للحديث عن وفي كل شيء سلباً وإيجاباً، همهم الوحيد الإستئثار في الحضور الإعلامي بأية وسيلة كانت.

الكلام هنا ليس عن تأثير الإعلام فقط، بل عن أحد أسوأ وسائل هذا التأثير، إنهم من يسمون (الخبراء الأغبياء). وهم مجموعة من الناس يتم استضافتهم في الندوات والمؤتمرات والفضائيات والقنوات، وتنشر مقالاتهم في أعمدة الصحف، وتطبع كتبهم دون أي رفض ويتم تسويقهم على أنهم العباقرة المتميزون الذين يشخصون كل الأمراض ويملكون أي حل لأية مشكلة في العالم، يملكون عصا موسى وخاتم سليمان والذين لا يجوز لك أن تعترض على ما يقولونه أو تعقب على ما يتحدثون به لأنك لست بمنزلتهم الخارقة هذا ما يقولونه لك، ولأنك أيضا لا تملك المال الكافي والسلطة المناسبة لذلك، وهذا ما لا يقولونه لك.

ورغم أن كلمة خبير تعني في اللغة الأدبية العالم البارع في الشيء والترجمة العصرية لها تتمثل في الشخص الدارس والمدرس لمجال ما والحاصل على الشهادات الأكاديمية العليا فيه، ليس هذا فحسب بل إنه من يجمع بين دراسة المجال دراسة نظرية وتطبيق الدراسات عمليا. ومع تشعب العلوم وكثرة التخصصات -علوم سياسية، اجتماعية، طبية، تاريخية، رياضية، علوم الإتصال، ..- ومع التداخلات الموجودة بين الاختصاصات العلمية المختلفة أصبح هذا كله يأخذ من سنوات الإنسان الكثير ليتمرس ويتمرن ويتعلم ثم يكتسب الخبرة اللازمة التي ترفق باسمه تلك الكلمة المكونة من أربعة حروف والتي تسمح له بالخوض في مجال تخصصه وتحليله وتشخيصه لعلاجه، ليستحق أن يحمل لقب «خبير».

إن التكريس الإعلامي لفئة من المثقفين دون غيرهم لا يضر فقط باحترافية العمل الإعلامي ويؤثر على نوعية المادة الإعلامية الخام ولا يكرس لتوجيه الرأي العام بدل إثرائه فحسب، بل إن أثره الأكثر ضررا يكمن في الصورة السيئة التي تعطى عن الأكاديميين والباحثين، وتضرب الموضوعية التي تعد ركنا مهما من الاختصاصية العلمية عرض الحائط، وتجرد العلم والدراسات عن عنصر الحيادية التي إن هي غابت غاب العلم معها. الأكثر من هذا أنه يمارس سياسة الإقصاء ضد المعارضين، ويخلط معايير الكفاءة الأكاديمية عند العامة كما أنه يحرم المجتمع من مخارج ممكنة لمشكلاته وقضاياه فيحد من قائمة الحلول ويحصرها من وجهة نظر إيديولوجية أحادية، ويخل بتكافؤ الفرص بين المثقفين في الظهور وعرض أفكارهم وآرائهم، حتى أنه يضر بمسار التنافس بينهم الذي يعتبر نقطة دافعة مهمة نحو تطور الجوانب العلمية الثقافية وحل المشاكل العملية في شتى الشؤون والميادين.

إن هذا النوع من الأمراض يصعب علاجه واقتلاعه فحرب المصالح التي يعج بها العالم العربي والفوضى الأمنية والثقافية مع الاختلافات العقائدية والدينية وحتى السياسية، ومع الثقافة الأحادية للمجتمعات العربية المتسمة بالتزمت والرافضة للنظر في مسلماتها، كل هذا يجعل من التحيز الإعلامي أمرا واقعا بل سلاحا لا بد منه في سبيل الفوز والانتصار ويجعل مشروع الإعلام الموضوعي حلما بعيدا على الأقل في هذه الظروف. ولأن مستنقع المرض لن يجف ما دامت منابعه تجري سيكون العلاج الظرفي متمثلا في التطعيم ضد كل ما له علاقة بهؤلاء الخبراء الكذابين ومن يسمحون لهم بالظهور لأن نيكولاس دافيلا يقول: ( في القرن الحالي الذي ينشر فيه الإعلام حماقات لا حصر لها، أصبح الرجل الواعي لا يُعرَف بما يعرفه ولكن بما يتجاهله).

ـــ  الدستور

مواضيع قد تهمك