الأخبار

فارس الحباشة : الصين.. رواية أخرى

فارس الحباشة : الصين.. رواية أخرى
أخبارنا :  

في حياتي ايام لا تنسى. وكما في حياة اي انسان ايام من الواجب ان تدون. وايام تستعجل في تدوينها، وتسعجل في الكتابة عن اسرارها وبوحها، ومخزون ذكرياتها، و قبل ان تمحى او تنسى، و قبل ان تركد في مخازن الذكريات البعيدة. و ان تسافر الى الصين، ليست زيارة عادية.. ومن منا لم يحلم بان يزور الصين مرة ومرتين واكثر، وكنت قد زرتها عام 2019، في عطلة عيد الاضحى زرت الصين بدعوة رسمية من الحكومة.

***

الرحلة الى الصين في الطائرة كانت من اطول الرحلات في حياتي.. وتنافسها في الطول رحلتي لسريلانكا والفلبين، ورحلة ماليزيا.. والمعروف ان الطائرة المتوجهة الى

بكين تتوقف في الدوحة، عاصمة قطر 4 ساعات على الاقل، وثم تنطلق الى مطار بكين، و في مسارها تعبر من فوق ايران وباكستان وطاجكستان، وجبال الهمالايا، وتبدأ في الهبوط من الدوحة بعد 10 ساعات طيران.

ك»راكب» لطائرة، وبخاصة، وقد عشت طفولتي في قرية، وركبت حمارا وجحشا، وكنت اذهب الى المدرسة سيرا على الاقدام، ولم نعرف الجبال والبحار، وكنا نسمع عنها في الاخبار والكتب المدرسية.

و انت فوق قمم جبال الهملايا يغلب عليك شعور واحساس غريب.. وتتساءل ان كان قائد الطائرة قد اوقف محركها فجأة، فالسكون مفاجئ والهدوء غالبا داخل الطائرة يبعث على القلق والخوف. و من الشباك تبدو الطائرة وكأنها تنزلق على جليد يغطي قمم الجبال. ومن بعد يأتي صوت رخيم وناعم، ويخاطب الركاب باللغتين الانجليزية والصينية، ويستجدي من الركاب بلغة حنونة ربط الاحزمة، فمطار بكين صار على بعد دقائق.

وفي مطار بكين، توقفت 4 ساعات، وتجولت في المطار، ومن ثم انطلقت في حوالي الواحدة فجرا الى مطار « أورومتشي ديووبو الدولي «.. وكنت الراكب الاردني والعربي والاجنبي الوحيد في الطائرة. و كنت قد قرأت قبل السفر، وتأكدت بعد الهبوط والخروج من المطار الدولي في اقليم شينجانغ ان مدينة « اوروميشتي « تنفرد بصفات نادرة.. وصفات لمدينة تقابل جبال جليدية شاهقة، ووادي منبسط وسهول خصبة، مما يضفي على المدينة سمات محببة.

و في شينجانغ مسؤلو الدولة يفاخرون بان الاقليم يسكنه حوالي 120 مليون نسمة من اعراق وقوميات مختلفة.. ويشهد الاقليم اكبر مشاريع تنمية عملاقة في الاقاليم الصينية، ويشق الوصل في الميناء البري لطريق الحرير بين الصين واسيا الوسطى ومرورا بباكستان وافغانستان وايران، ووصولا الى روسيا واوروبا.

***

وكنت محظوظا اذ ان زياراتي تزامنت من حلول عيد الاضحى. واديت صلاة العيد في اكبر مسجد بمدينة « اوروميشي «. ومسلمون احتفلوا في حلول عيد الاضحى يوم الاثنين خلافا للسعودية ودول عربية. و كان المسجد مزدحما، وادى صلاة العيد الاف من المصلين.. وفي المسجد ورشة اعمال لترميم وصيانة اثاره التاريخية والتراثية، وبناء المسجد يعود الى بدايات القرن العشرين.

و في المركز الثقافي الاسلامي في المدينة تدرس اللغة العربية، ويدرس طلاب الفقه الاسلامي وعلوم الدين، وتلاوة القران. ويتخرج سنويا الاف من الطلاب، ويعلمون ائمة ومرشدين وخطباء مساجد، ومعلمي تربية اسلامية. و مشهد اقليم «شينجانغ « مدهش، وانت تطالع مدينة صينية اغلب سكانها من المسلميين. وكنت اتوقع مدينة صينية شيوعية متزمتة، ومبان كبيرة وناطحات سحاب متجهمة

و ضخمة، ولكن مدن الاقليم فاجأتني بغابة من ناحطات سحاب وعمران حديت وعصري، وتنافس احدث مدن العالم، ودون ان تنسى الروح والشخصية الصينية، والتراث والتاريخ الصيني العريق. شوارع مدن الاقليم مزدحمة، في الصباح الباكر دراجات وفي الضحى سيارات، وفي الليل تمتلىء بالمارة، وتضج بحركة السيارات وركاب الميترو والنقل العام، والمدينة اشبه بورشة عمل ضخمة. وفي مدن الصين لا تنام ولا تسمح بالنوم لمن ساقته الظروف ليزورها ويقيم في فنادقها.. لربما لست الوحيد المصاب بالصدمة من الصين، بل ان اغرابا كثيرين اتوا من دول اوروبية وغربية عبروا عن صدمتهم.

و زرنا في اقليم شينجانيع متاحف ومصانع ومساجد ومراكز ثقافية اسلامية، واندية رياضية، ومراكز فنية وتراثية «ايغورية « وشركات تصنيع سيارات وشركات لوجيتية، وشركات تكنولوجيا معلومات وصناعة رقمية، وزرنا «معبد بوذا «، وحقول لانتاج الطاقة الشمسية، وزرنا اكبر ميناء بري في الصين، ويربط الصين في اسيا الوسطى وايران وباكستان وروسيا، واوروبا.

و في جولتنا في مدينة «اويشي « تعرفت على اطيب مشويات اللحوم لا يجيد اعدادها الا السكان الاصليين « الايغور «. واكلات تراثية وشعبية صينية يتفنن في طبخها سيدات ورجال من عرق « الايغور «.. ولعلهم علموا الاتراك والايرانيين والعرب كيف تشوى اللحمة وتطبخ على النار ؟! و خلال الزيارة حضرت حفلتين في المركز الثقافي الوطني في مدينة اوريشتي واويشي لفرق فنية تراثية « ايغورية «. ويقدمون عروضا مسرحية وفنية موسيقية لمقطوعات موسيقية ومقامات تراثية ايغورية.

و الحق انني كنت مستريبا في تعبير «الخصوصية الصينية «، لربما ليست اول مرة اسمعها، ولكن في الزيارة الاخيرة تكررت على مسامعي اكثر من عشرة مرات.

و في الزيارة تنقلت بين مدن اقليم» شينجانغ «. وتعرفت على انواع من الطعام الصيني، وشربت الشاي الصيني، والشاي رمز للضيافة، كما القهوة في ثقافة بلادنا..تعرفت على اطعمة لاول مرة اسمع عنها من قبل. ومن اطيب ما اكلت انواعا من لحوم السمك والقشريات، ومن فرط اعجابي بالمأكولات البحرية كنت اتغدى واتعشى عليها.

***

هي الزيارة الثانية للصين، تأتي بعد حوالي 5 اعوام.. وفي كل زيارة تزداد قناعتي بان الصين تسعى بحثاثة نحو القمة.. التنين المتثائب، يتمطى وينفث السنة من لهب تؤثر فينا جميعا.و في كل العالم يوجد شيء من الصين، ودون استعراض وتهديد بالغزو والاستعمار، واقتصاد قوي وتقدم تنكولوجي يجعل من جملة صنع في الصين تعبيرا عالميا.

ونعرف عن امريكا واوروبا اكثر ما نعرف عن الصين..

ومن الروح والشخصية التاريخية الصينية صنعوا فارقا في التقدم والانجاز، وحجزوا مكانة بين الامم.. والصين تفوقت على بريطانيا العظمى واوروبا ودول الغرب باسرها بقوتها الحضارية، وهي الروح التي استنضهت الصين واخرجت مئات الملايين من فقراء الصين من مربع الفقر والبطالة الى براح الانتاج والعمل والتقدم.

كانت زيارتي الى الصين جميلة ومدهشة..و شاءت الاقدار ان اكون شاهدا وراويا لما يحصل في الصين اليوم. واكاد بشيء من الامانة والمسؤولية ان اذكر بما قاله المفكر المغربي عبدالله العروي منبها العرب بضرورة الاستدارة والتوجه الى الشرق، وتحديدا الصين.

الصين مختلفة عن دول كثيرة مزدحمة بالسكان، وفي الصين تشعر ان لهذه الامة دور ووظيفة ومعنى. وفي التعرف على فصول من تاريخ الصين تعرف كم ان هذه الامة قدمت في فن بناء الامم وقراءة مستقبلها. ثمة حملة كراهية ضد الصينيين. الصين لم تستسلم لارادة امريكا الطاغية.. وتقدم الصين نموذجا لكل شعوب العالم النامي بالتحديث والتقدم الاقتصادي على ارضية صلبة وعزيمة وطنية وكفاءة نخبة حاكمة.. فالمتابع الواعي والمحايد يعرف ويميز حملات البروغاندا الامريكية والاوروبية ضد الصين.. وفي تمشيط السياسة الامريكية مع الصين يجري على العمل على ما اسماه كيسنجير احتواء الصين، والاستهداف الامريكي للصين في التسويق لحملات واكاذيب حول حول حقوق الانسان والديمقراطية والانفتاح، واضطهاد الاقليات. ــ الدستور

مواضيع قد تهمك