الأخبار

بشار جرار : «مْقلّع سْنانُه»؟!

بشار جرار : «مْقلّع سْنانُه»؟!
أخبارنا :  

كنت تحت تأثير «بنج» ما قبل اقتلاع «أضراس العقل». سألني طبيب التخدير في مستشفى الجامعة الأردنية عن مهنتي فأجبته: محرّر. فردها عليّ بسؤال مازال هو الأصعب منذ ثلاثة عقود ونيّف، تحرر ماذا؟ فأجبته إنها الأخبار، فعاجلني بسؤال ثالث كان كما الضربة القاضية: وهل الخبر بحاجة لتحرير؟!

ضحكنا بعد الإفاقة وقد شكرته والطبيب الجرّاح على قلعه أربعة أضراس «عقل» في الفكين لو ظلوا في أماكنها الخاطئة ونمو باتجاه معاكس لتفاقمت المشاكل الصحية والآلام ولم تبق محصورة في الأسنان. أجبتهما هكذا هو تحرير الأخبار بحاجة في كثير من الأحيان إلى عمليات أشبه ما تكون بالجراحة التي تفضي إلى الخلع والقلع و»الشلع» (الاجتثاث) لا التجميل!

لم تغب تلك الصورة عن ذهني وقد عبرت بسلام -إلى حد ما- سن العقل «الأربعين» قبل عقدين. ما زال العالم، مرسلين ومتلقّين -وفق اصطلاحات علم الاتصال الجماهيري الذي صار تواصلا لا مجرد اتصال- ما زال يعاني تبعات عدم تحرير الأخبار على نحو أمين. البعض -ممن يمتلك المال و/أو السلطة- ما زال مصرا على الجراحات التجميلية بمعنى تصميم وتعميم الأخبار الكاذبة والأنباء المزيفة والصورة والفيديوهات التضليلية أو المضللة. هم يكذبون لا يتجمّلون، وأخبارهم «المبهّرة» و»المزوزقة» ما هي إلا تزييف بتزييف. وما «تزمير» البعض و»تطبيله» لأي جهة أو شيء كان دون لغة صادقة دقيقة أمينة، إلا ضلال وتضليل. هو كما الجاهل الذي يقتل صاحبه ونفسه بالخطأ أو انتحارا!

أخطّ هذا السطور وأنا بين عدة رحلات عمل في أكثر من دولة شقيقة وصديقة لتقديم ما تعلمته من خدمة ودراية وخبرة لزملاء عرب وأجانب تصدوا لحمل هذه الأمانة التي تخشى من حملها الجبال. لم تعد وحدها الكلمة، بل الصورة والصوت والمؤثرات الفنية المصاحبة من رسومات بيانية وتعبيرية وموسيقى كلها صارت جزء من الخبر ومن السردية. التزييف صار عميقا قد لا تكشفه إلا الجراحة، فحتى التصوير الشعاعي والطبقي والرنّان الطنّان صار عرضة للتلاعب ببضع نقرات يعبث بها مراهق في غرفة رطبة مظلمة في قبو أو سرداب أو «استوديو» في ناطحة سحاب!

محو الأمية الإعلامية ومحاربة التضليل الإعلامي صار متطلب حياة ونجاة لا ترفا أكاديميا أو إنجازا مهنيا. هو كما الرعاية الصحية، ففيروسات «التيك» (البيغ تيك من عمالقة التكنولوجيا كغوغل وأمازون وآبل) و»التيك توك» وسائر منصات التلاعب الفردي والجمعي بالوعي، صارت أشد فتكا من الكوفيد التاسع عشر!

«الوقاية تبقى خير من العلاج». ليس مطلوبا أن نحيل المشاهدين إلى صحفيين بعد أن درجت تقليعة «المواطن الصحفي»، لكن المطلوب وبدرجة ماسة هو رفع منسوب الحساسية من كل ما هو كذب وكاذب، ومن ثم رفع سوية المعرفة في كل ما هو صدق وصادق، حينها وحينها فقط يتحول ذلك الصحفي المواطن إلى محرر.. وقد تصل فيه الثقة بالنفس إلى حد التباهي بأنه صحفي مُرّ لا يضيره ما يَمُرُّ عليه من أضاليل وحملات تضليل لأنه «مقلّع سنانه»!ــ الدستور


مواضيع قد تهمك