الأخبار

د . ماجد الخواجا : ذات وجع

د . ماجد الخواجا : ذات وجع
أخبارنا :  

قيل هناك ثلاثة أمور تغير من وجهة نظر الإنسان: « الغربة والسجن والمرض «. في الغربة تبدو الحياة والمواقف والأشياء واضحة مباشرة جافة لا روح فيها ولا دفء، مجرد تبادل مصالح أو انتفاع بمقابل، تصبح العلاقات سطحية عرضية تبدأ وتنتهي بحسب الغاية لا حسب بوصلة القلوب، تسودها حالة من الجفاف واليباس العاطفي، لا يمكن لك إلا أن تعتمد على ذاتك مهما كلفك الأمر، تتكشف أمامك كثير من صفات وتقلبات البشر ويظهرون على حقائق قد تبدو مختلفة تماماً عما هم عليه حين كنت في وطنك، تكبر فجأة لدرجة الكهولة وإن كنت في ريعان شبابك، تخشى من أي عارضٍ صحّي قد ينتابك ولا تجد من يساعدك أو يقدّم لك أية خدمات. تواجه الحياة بصدرك العاري وتتلقى الصدمات وربما تتنازل عن كثير مما كنت تعتقد أنها مسلمات ومبادئ لا يمكن المساومة عليها، إنها الغربة التي تعيد صياغة وتشكيل الشخصية الإنسانية للفرد كما لو أنه ولد من جديد، شخص غريب عنك لكنه أنت، إنها الغربة بكل جبروتها وقسوتها وضريبتها المرهقة وطبائعها التي لن تعود بعدها كما كنت سابقاً أبداً أبداً.
الثانية السجن حيث يتغير معنى المكان والزمان، قيمة الوقت واختلافاته، العلاقات مع البشر، الطموحات والأحلام، تتغير الأمنيات وربما تصبح بسيطة جداً لكنها صعبة المنال، في السجن يعاد تشكيل كثير من المفاهيم والمسلمات والرغبات، تصبح المساحات المتاحة بمثابة العالم كله، تصير نافذة المهجع كأنها بوابة الخلاص، تأخذ الشمس والقمر والنجوم والسماء أشكالاً لها روح العاشق الصوفي. يختلف الفهم للحرية والكرامة والمصلحة والحب والإيثار والتعاون والخير والشر والغضب والحكمة.
أما المرض فهو بمثابة محطة إجبارية يتم وقوفك فيها لتهبط دون رغبتك في مكان وزمان لا خيار لك فيهما، المرض جدار يظهر فجأة في حياتنا ليصدمنا طالباً منا إعادة المراجعة لعديد من أشيائنا وافكارنا ومواقفنا ورغباتنا وأحلامنا وطموحاتنا. المرض يحتل فضاء النفس بصلافة ويعطّلها عن أية فعاليات أو اعتيادات كانت تمارسها، إنه يعيد برمجة التفاصيل والأولويات والاهتمامات، فتصبح أبسط الأشياء هي أصعب ما يمكن أن تناله النفس، المرض له سلطة متوحشة على الفرد بحيث تجعل منه عاجزاً عن تأدية أسهل المهمات، غن الوصول لأقل الحاجات، عن تحقيق أدنى الرغبات، تصير رشفة الماء تجرح القلب، تصير بعض نشاطات الجسم الاعتيادية بمثابة بطولات انتحارية يصعب القيام بها.
ليس سرداً لحالة ذاتية، لكنها تصلح لتكون مؤشراً لحالات عامة تحدث أو قد تحدث مع أي فرد، حين انتابتني وعكة صحية بدأت أعراضها بإمساك شديد وتحجر في البطن وفقدان الشهية والمزاج، فقدان التوازن والحركة، صعوبة التحدث، انهيار النشاط الجسدي والنفسي، ديمومة الرغبة في النوم، عدم المقدرة على فعل أي شيء مهما كان بسيطاً، لكنه الإنسان الجاهل مهما بلغ من العلم والعمر والخبرة، يظل مسكوناً متشبثاً بالحياة رافضاًفكرة النهايات البائسة خاصة تلك التي يطغى عليها الوجع والألم والمرض. فيبقى يكابر معتقداً أنه صامد ويقاوم، لكنه في الحقيقة يكون قد منح المرض تصريحاً مفتوحاً بأن يعيث في الجسم والنفس كما يشاء.
لم أكن سابقاً قد سمعت عن « المرارة» وما هو طبيعة عملها غير ما تحمله الذاكرة عندما كان الجزار أول ما يقوم يهبعد ذبح الشاة أنه يزيل كيساً ممتلئاً بسائلٍ أصفر، عرفت حينها أن هذا الكيس الذي يدعى بالمرارة عبارة عن محطة تنقية السموم من الدم، وأنه حين ينفجر يفسد لحم الشاة تماماً.
حين وصلت إلى الطوارئ كانت المرارة قد تعبت تماماً وانفجرت وبثت سمومها في أرجاء الجسم كله، فتعطلت أنزيمات القلب مع فشل الكلى وتوقف الأوكسجين وهبوط عام في كافة فعاليات الجسم، كانت لحظات غبت فيها عن الزمان والمكان والإدراك والوعي، نظرات بلهاء تخرج مني في فضاء الغرفة باحثة عن أوكسجين، عن أي شيءٍ أتشبث به دون جدوى. كانت لحظات لم أعهدها في حياتي.
كنت أشاهدهم وهم يتنقلون بي بين صورة أشعة وسحب دم، وفحص أنزيمات وتخطيط قلب وثمة من يمسك بيدي يسألني: هل تعرف أين أنت؟ فأجيبه أنا في طوارئ مستشفى الجامعة الأردنية.
هل غيّرت المعاناة من وجهة نظري في الحياة، هذا ما سيكون في المقالة الآتية.
وللحديث بقية. ـ الدستور

مواضيع قد تهمك