الأخبار

ا . د . مازن لعرموطي يكتب: عن كتاب محطات بألوان الطيف

ا . د . مازن لعرموطي يكتب: عن كتاب محطات بألوان الطيف
أخبارنا :  

صورة السجل الذاتي ومعنى القيمة المضافة من واقع التجربة الشخصية المدونة في كتاب" محطات بألوان الطيف"
(1)

ضمن هذا الإطار، لا أجد إضاءة جامعة توصيفاً معيارياً نموذجياً لمفهوم السيرة الذاتية أفضل من الاستهلال الذي كتبه الدكتور نبيل حداد في تقديمه لكتابي "محطات بألوان الطيف - مسيرة التجديد والبناء والتعبير الثقافي " وملخصه أن المذكرات لا تقتصر غايتها فحسب على عرض تجربة صاحبها عبر السنين في ميدان الحياة العلمية فتقدم بكل نزاهة وموضوعية وبكل الأدوات التعبيرية المتاحة من مادة مكتوبة أو رواية مسموعة ووثائق وصور ورسوم تشكيلات ولوحات وذكريات وأمثله، بل على عناصر أساسية أكثر أهمية من مثل القيمة المعلوماتية والرسالة التعليمية والعظات التي نتدبرها ونبني عليها، كل ذلك في سياق التجربة الشخصية المباشرة.

ووراء تحقيق هذه المعاني الأثيرة ، فقد سعيت للاقتداء بنصيحة مباشرة من الشاعر والكاتب العربي محمد الفيتوري مؤداها "إذا قيض لك يوماً ما أن تكتب عن تجربتك في الحياة فابدأ من النهايات والإنجازات، وأعط رأيك بشجاعة في مجريات الأمور وحاول الإجابة على السؤال الأزلي:" ماذا أضفت إلى هذا العالم؟
وقد أيد شاعرنا وكاتبنا الأردني الكبير خالد الساكت هذا التصور مضيفاً خلال مجلس ثقافي جمعنا أن "ما دون ذلك لغو وسفسطة وسجل ذاتي ممل به لزوم مالا يلزم، أو بالتعبير الأردني الشعبي "سوالف حصيدة".

وفي هذا السياق استعرض الشاعر الصديق سيرة ذاتية قام الفيتوري بمراجعتها في حينه، حيث لاحظ فيها (كما نلاحظ اليوم في كثير من السير المنشورة) خلواً من المحتوى الثقافي والفكري، وتركيزاً على الأبعاد الشخصية والإنسانية وكثيراً من الادعاءات وتمجيد الذات والمبالغات المفرطة والتفصيلات المفرطة حول النشأة والتسلسل الوظيفي وكأننا أمام مزيج من شهادة الأحوال الشخصية والسجل العملي الحكومي أو الأهلي.

وقد التقت هذه النصائح المجلجلة في بعدها المفاهيمي مع تصور صديق ألماني مهتم بالثقافة العربية، حول فهمنا لمعنى الحياة وقيمتها وتعبيرنا عن دورنا فيها، وهي أمور تطرق أبوابنا بقوة عندما نسترجع أونستقرئ سيرنا الشخصية، وتوصل إلى استنتاج مفاده أن الإجابة تنبثق عن مسيرة رسول الإسلام الأعظم صلى الله عليه وسلم، وملخصها عبارة واحدة :"أثر ينتفع به" سواء كان مادياً أو معنوياً، وأضاف، استطراداً، أن العلامة الفارقة في سيرنا الشخصية هي المبادرة والريادة وطرق أبواب الحياة في جميع جوانبها، ودون هذه التطبيقات لن يكون لحياتنا معنى كبير، بل قد يكون وجودنا فيها بلا قيمة حقيقية مضافة".

ولعل خلاصة هذه الآراء جملة جامعة بقي صداها في أذني حتى البدء بكتابة سيرتي الذاتية وهي "ماذا قدمت لدنياك"، والمقصود بها قيمة الإضافة النوعية في مسيرة العلم والعمل.
وعلى ذلك فإن كلمة "الأثر" ومضمونها كانت دوماً هاجساً كبيراً في حياتي، ومسوغاً حقيقياً لكتابة سيرتي الذاتية، بهدي من المؤشرات الصوفية التي تلازمني ومؤداها "تجسيد المتخيل والتجديد والريادة والسعي نحو صفاء الروح والانسجام مع الذات".
(2)
وفي محاولة لتشريح هذه العبارات ضمن إطار مفاهيمي والوصول إلى تفسير يتعلق "بالقيمة المضافة" وتجسيدها، توصلت إلى أنها تستدعي محاولة الإجابة عن الأسئلة التالية:

- هل اكتسبتَ علماً مستزاداً أو راكمت تأهيلاً وخبرة نوعية ووظفت ذلك في إحداث أثرمحسوس؟
- هل أحدثتَ أي علامة فارقة في مجال التنمية الاجتماعية بأبعادها الثقافية والسياسية والاقتصادية والعلمية مما ارتدّ خيراً على الناس وفائدة على الوطن.
- هل تركتَ شواهد مادية أو معنوية أو فنية أو بادرت بمشاريع باقية أو أسهمت فيها بشكل مؤثر؟
- هل قدمتَ أفكاراً جديدة خلاقة وإنتاجاً علمياً أو ثقافياً ملموساً أو أنجزت رسالة تربوية أو أسهمت بإثراء محيطك في مختلف المجالات؟

وفي جميع الأحوال فإن الخيط الناظمَ لكل هذه الأسئلة هو سؤال جامع مركب يشكل متطلبا لوصف مسيرة المرء في هذه الغاية بأمانة:" هل كنت منسجماً مع نفسك في أفعالك وتعبيرك عن ذاتك؟"
إن التعبير الصادق يتلازم مع كل مكونات التجربة الشخصية، أوكما قال مولانا سلطان العارفين جلال الدين الرومي، فإن من المهم قراءة الذات بصدق بغرض أن يرتقي المعنى، وألاّ تكون قد "رأيت الصورة ولكن غفلت عن المعنى".

ضمن هذا الإطار حرصتُ على أن أعرض كتاب سيرتي الذاتية صورةً ومعنى في مسيرة الحياة، دون الالتزام بأجندة زمنية أو مرجعية مكانية بالقوالب المعتادة لما يسمّي "المذكرات أو الذكريات" التي تركز على العرض التاريخي الأفقي المتسلسل بأسلوب سرد اليوميات والسجل الوظيفي والدفاع عن مواقف معنية وتبرئة الذمة وأحياناً محاولة تقديم صورة إيجابية ناصعة عن إنجازات بعضها صحيح والبعض الآخر متخيل ليعبر عن رغبات مكنونة فيما لو تحققت .

وعندما نظرت في مرآة الحياة حاولت تجسيد المتخيل في مسيرتي الشخصية بما يتسق مع عبارة الصديق الألماني:
"لكي يكون للحياة معنى شامل فلا بد من طرق أبوابها من جميع الجوانب الممكنة، بدلاً من النسق الواحد أو الانخراط في مجال عمل أو اهتمام واحد". رأيت في هذه العبارة تجسيداً لمسيرتي الخاصة حيث لازمني منذ الصغر هاجس التنوع والشمولية مما تحول بفضل الله إلى تعدد المجالات وتنوع الإنجازات، ويوازي ذلك وربما كان أحد أسبابه، التَرحال المستمر وتغير الوجهة بين فنية وأخرى (كل بضع سنوات) بحيث أصبح ذلك سمة لازمة في حياتي.

من هنا جاءت تسمية الكتاب "محطات بألوان الطيف" عرضت فيه بالتحليل الابعاد الثقافية والفكرية والتنظيمية في جهودي للتجديد والبناء ضمن "تنوع منسجم" على مدى نصف قرن من إنجاز بِنى مؤسيسة و تنظيم نشاطات كان لي فيها مسؤولية تأسيسية أو إشرافيه مباشرة أو مشاركة فاعلة، وبصورة سعيت من خلالها بدقة وأمانة أن أبين محاولاتي الدائمة لتحقيق الذات والتعبير عن المحتوى والقيمة المضافة لكل منها.

وفي هذا السياق عرضت للجوانب الشخصية والعلمية في مسيرة حياتي متضمنة الاهتمامات والهوايات، ومنقبا في الأعماق عن الجذور والمؤثرات العاطفية والفكرية والتراثية والثقافية إلى جانب مراجعة واسعة للأعمال والإنجازات شملت النشاط الطلابي والعمل الأكاديمي والتدريس والبحث العلمي وتمويل البرامج العلمية والصحافة والاعلام والدبلوماسية والعلوم والتكنولوجيا والمعاهد والمهرجانات والمواسم الثقافية والعلمية المبرجة عللى مدار العام، وكذلك البحوث والدراسات والنشر والاهتمامات الخاصة في مجالات العمران والفنون.

وأوردت في هذا الإطار معلوماتٍ وجوانبَ يُكشف النقاب عنها للمرة الأولى، ومن -ضمنها مهام سياسية غير معلنة ونقد تحليلي للبنى السياسية والاجتماعية والإعلامية 3 والثقافية والإدارية في الأردن.
(3)

وقد كانت هذه النشاطات الواسعة والجهود التأسيسية والتجديدية ملازمة لصراع دائم مع الواقع الراهن والتيارات والقوى المؤثرة المحيطة بتجربتي من كل جهة، وقد كلفني ذلك عناء دائماً ومعاناة وتحملاَ مريرا للأذى، فكان لزاماً علي خلال مجمل مسيرتي العلمية أن أواجه حالة اجتماعية واسعة حتى لا أقول سائدة أو مهيمنة، وهي مقاومة البعض لكل ماهو جديد ولكل ما هو خارج على المألوف، ومعاداته، ممزوجة بنزعات الكراهية والبغض والتحاسد. وهو ما تناولته في كتابي بالتفصيل والتشريح وبصراحة قد تبدو جارحة لدى البعض، وفي بعض الحالات لمست لدى هؤلاء البعض صفة سلبية ومتجذرة تتمثل بكره النجاح والتميز وتعسفا في المحاسبة وتصيدا غير بريء للهفوات سواء تجاه الشخص أو تجاه المؤسسة.

وأوردت أمثلة صارخة عن حملات الكراهية ضد أشخاص خرجوا عن الطوق، وعن إعمال معاول الهدم للعديد من المؤسسات التي أريد لها أن تكون واحات تميز في محيط دب فيه العقم والخمول، ولكن مالبثتْ للأسف، أن غمرتها الرمال المحيطة وأجهضت نموها.

وقد عرضت بالتفصيل نماذج للبرامج والنشاطات والأطر التنظيمية للمؤسسات بالإضافة الى مجمل المحطات والتجارب في هذه المسيرة والظروف التي أحاطت- بل أحاقت- بها بكل شفافية وصراحة ووضوح (ضمن إطار منهجي تحليلي)، مع استدراك واجب يتعلق بحدود ما يمكن أن يقال أو يكشف عنه لأسباب اجتماعية أو أمنيّة، تأسيا بقول الإمام علي بن أبي طالب كرم الله وجهه: "ليس كل ما يعرف يقال، و ليس كل ما يقال حضر أهله، وليس كل ما حضر أهله حان وقته، وليس كل ما حان وقته صح قوله".

وفي المحصلة، وفي مجال تقديم المسوغات لإنجاز كتابي وتجلياتها، فإنني عندما عزمت أخيراً على تقديم خلاصة عن محطات في مسيرتي الشخصية والمهنية حرصت أن أبث للقارئ أسراراً ومكنونات وخلاصة تجارب ينتظمها خيط واصل شمولي يتمثل "بالتعبير الثقافي". ولم أجد ما يصف هذا المحتوى المركب أفضل من عبارات قالها المؤرخ التركي إبراهيم قالن مؤداها أن "الثقافة مفهوم شامل يعبر عن حضارة ويمتد إلى المجالات كافة؛ بدءاً من المرجعية الدينية والكيان اللغوي إلى آداب المعاشرة والمناسبات؛ فمن نمط المعيشة إلى العلاقة بين الحاكم والمحكوم، ومن العمارة إلى القانون، ومن أشكال السلوك إلى الموسيقى والترويح، ومن الفنون إلى الحِرف، وحتى إلى ثقافة المطبخ.
هذا المفهوم المركزي والشامل للثقافة كان هاجسي الدائم دافعاً ومحركاً منذ بدأت مرحلة الوعي والتأمل والتفكير حول معنى الحياة ودور الإنسان فيها. وكان فرصة لفترة من الحوار الذاتي الفرداني ألوذ بها إلى أن حان الوقت بعد مسيرة حافلة بالتجارب والمفارقات والأحداث، فوجدت لزاماً علي أن أعرض خلاصتها وأكشف عن خباياها من زاوية نظرتي الخاصة، ومن واقع مشاركتي في جوانب منها، أو محاولة مقاربتها لكوني شاهداً عليها.

وكان همي خلال عرض التجارب والأفكار والممارسات أن أتمثل أقوال سلطان العارفين مولانا جلال الدين الرومي: "من الجيد أن ترى الصورة وتقرؤها ولكن دون أن تغفل المعنى بل تنقله بأمانة حيث إن المرء يبقى أمياً حتى يقرأ ذاته، ولا يقرأ المرء ذاته حتى يقول لقلبه اقرأ."

لذلك فإن أمانة العرض هي مرآة لشرف الكتابة، وعلى ذلك فإن أملي أن أكون قد عرضت الصورة والمعنى في آن معاً. تاركا المغزى لأفهام المتلقين، مع إدراكي أن "بعض عمرك ما لم تعشه وما لم تمته وما لم تقله."

مواضيع قد تهمك