الأخبار

محمد يونس العبادي : ذاكرة العالم والأرشيف المهاجر

محمد يونس العبادي : ذاكرة العالم والأرشيف المهاجر
أخبارنا :  

لطالما مثلت الوثيقة، ليس الذاكرة وحسب، بل الدليل والشاهد، وأداة المؤرخ في الوصول إلى الحقيقة لفهم الحاضر، والماضي، وإنّ لم يكن التنبؤ بالمستقبل أيضا.

وقد أولت الدول الاستعمارية، أو الدول العظمى، أهمية فائقةً للوثيقة لإدراكها، بأنها هي أداة تأريخٍ وشاهدٍ، وحتى إدانةٍ أحياناً.

ومن بين الأمثلة، التي تشرح أهمية الوثيقة، وموقعها في فكر هذه الدول، ما تشرحه التعليمات التي صدرت لمديري المستعمرات، والمسؤولين فيها، خلال أفول الإمبراطورية البريطانية، إذ نصت على جمع وتأمين جميع السجلات قدر الإمكان ثم حرقها أو شحنها إلى لندن، وقد عرفت هذه العملية باسم «العملية ليغاسي».

لقد كان الهدف من هذه العملية، ضمان تبييض التاريخ الاستعماري، وقد تدخلت فيها القوات المسلحة الملكية البريطانية، وذلك بقيامها ببناء محارق، لحرق هذه الوثائق.

كما يروي التاريخ، أيضا، بأنّ بعض هذه الوثائق البريطانية، والتي كانت بالمستعمرات، قد حشوت داخل صناديق ثقيلة وتم إغراقها في شواطئ مختلفة، بقصد عدم وصول الدول المستقلة حديثاً إليها، ولضمان ألّا تصل إلى أيدي المؤرخين.

ومن بين أجزاء عملية «ليغاسي» تقول بعض المراجع، إنّ مجموعة تتألف من 170 صندوقاً ما تزال محفوظة في لندن، وتصنف على أنها «سجلات فائقة السرية»، ويسمى في الأدبيات لدى المؤرخين البريطانيين، هذا الأرشيف بـ «الأرشيف المهاجر» ويوثق لمراحل مهمة من تاريخ العالم، وبخاصة المستعمرات البريطانية.

وغير بعيد عن هذه الصيغ، والتي تشرح سماتٍ استعمارية متأصلة، توضح أحياناً أهمية الوثائق، ومقدار ما أهمله المؤرخون منها، فالتجربة الفرنسية بالجزائر لم تكن بأفضل حالٍ.

فما يزال ملف الأرشيف السري للاستعمار الفرنسي، واحدة من القضايا الخلافية، إذ تصر الجزائر على ضرورة استعادة الأرشيف المتعلق بفترة استعمارها، ذلك أنه سري بموجب قانون سرية الدفاع الوطني.

ومن بين ما يضم هذا الأرشيف الجزائري المهاجر إلى فرنسا، وثائق ضخمة عن الجزائر خلال الفترة العثمانية، ومؤخراً قالت صحيفة «لوموند» الفرنسية، إنّ ما يصل إلى 10 كيلومترات من الأرشيف قد أخذته فرنسا إلى الجزائر.

وهذه التجربة مشابهة، لأخذ أرشيفيات لدولٍ استقلت عن فرنسا، بينها كمبوديا ولاوس وفيتنام، ذلك أنّ فرنسا تعد هذا الأرشيف بأنه «سيادي».

إنّ هذه الأمثلة، لربما تشرح أهمية الوثيقة في فكر الدول الكبرى، ذلك أنّ الغاية ليس إخفاء الحقائق، بقدر طمسها.

إنّ الحديث عن الوثيقة التاريخية اليوم، وفي ضوء ما يشهده العالم من انفجارٍ معلوماتيٍ، لا تعد ترفاً، فما لم تصل إليه أيدي الباحثين، لربما يقابله آلاف، إنّ لم يكن ملايين الوثائق حول العالم، التي لم تخضع للبحث والنقد التاريخي المطلوب، بما يعيد في كثيرٍ من الأحيان، إعادة صياغة رواياتٍ تاريخيةٍ يحسبها البعض بأنها حقائق.

وبالعودة إلى بلداننا العربية، فإنّ تسخير الوثيقة، وفهمها، والتعامل معها، ونقدها، هو حاجة اليوم، لأجل بناء مؤرخين قادرين على رؤية الماضي بعيون الحقيقة، فثقافة الوثيقة، والاحتفاظ بها، وتسليمها إلى الجهات صاحبة العلاقة، هو واجب لكونه يسهل من فهم الباحث والمؤرخ لمجتمعه، وصيرورته.

أما بالنسبة لأرشيفياتنا المهاجرة، فإن هناك حاجةً ماسةً اليوم، للوقوف على ما تحتويه في عواصم الغرب، وهذا ما يبعث الحيوية بعلم التاريخ، ويبقيه قادراً على طرح التساؤلات، والإجابة عنها، أيضا.

فالغاية أحياناً، ليس حفظ الوثيقة ونشرها، بل الحاجة إلى أنّ توضع في مكانها السليم، حيث البحث التاريخي، وفهم سياقاته.

ــ الراي

مواضيع قد تهمك