د. محمد رسول الطراونة : ملتقى عمان للتمويل الصحي من الانفاق إلى الاستثمار
شكّل ملتقى عمان الأول للتمويل الصحي الذي عُقد مؤخراً كمبادرة استباقية جمعت عددًا من صانعي القرار والخبراء المحليين و الدوليين - الشكر لمن افتقدني بين الحضور- محطةً فارقة في مسيرة تطوير القطاع الصحي الأردني ، وقد عُقد الملتقى بتنظيم مشترك بين وزارة الصحة، ومكتب منظمة الصحة العالمية في الأردن، والبنك الدولي، وهيئات دولية أخرى.
جاء هذا الملتقى استجابة للحاجة الملحة لإعادة هندسة أنظمة تمويل الرعاية الصحية، وتحويلها من عبء مالي إلى استثمار إستراتيجي في رأس المال البشري فأنظمة تمويل الرعاية الصحية عصباً حيوياً في أي منظومة صحية طموحة، فهي ليست مجرد توفير للأموال، بل هي انعكاس للرؤية الاستراتيجية وأداة رئيسية لتحقيق التغطية الصحية الشاملة التي تنشدها الدول.
وفي خضم التحديات الديموغرافية والاقتصادية والوبائية المتزايدة، يبرز إتجاها عالميا وإقليميا لا بل ومحلي لإعادة هيكلة هذا التمويل ليكون أكثر استدامة وكفاءة، مع إعادة الرعاية الصحية الأولية إلى قلب هذه الإصلاحات، فشعار المرحلة الابرز هو"من الإنفاق إلى الاستثمار" في رأس المال البشري إذ لم يعد تمويل الصحة يُنظر إليه على أنه تكلفة استهلاكية، بل تحول إلى استثمار استراتيجي في رأس المال البشري، وهو أساس أي تنمية اقتصادية واجتماعية مستدامة. أما التغطية الصحية الشاملة التي تسعى لها الانظمة الصحية في العالم وتبحث عن أدوات تمويل مستدامة لها فلا تعني فقط توفير الخدمات الصحية للجميع، بل تعني ضمان حصول كل فرد على الخدمات الصحية التي يحتاجها دون حاجز مالي أوجغرافي أو اجتماعي وهذا هو جوهر البعد الاول للتغطية الصحية ( الوصول الشامل ) ، وتعني أيضا تقديم خدمات فعالة وآمنة تركز على المريض وتحقق النتائج الصحية المرجوة وهذا هو البعد الثاني للتغطية ( الجودة ) ، اما البعد الثالث وهو في نظري البعد الاخطر بين الثلاثة ( الحماية المالية ) التي تعني حماية الأفراد والأسر من المخاطر المالية الكارثية التي قد تدفعهم إلى براثن الفقر بسبب تكاليف العلاج الباهظة ، ولتحقيق هذه الأبعاد الثلاثة، يجب أن تصمم أنظمة التمويل بشكل ذكي، يقوم على مبادئ الكفاءة والإنصاف والاستدامة. ولان التغطيه الصحية الشاملة المنشودة لا تتحقق بدون الرعاية الصحية الأولية فهي المحور الاستراتيجي للإصلاح إذ تشكل الرعاية الصحية الأولية حجر الزاوية في بناء أنظمة صحية قوية ومستدامة، فهي الخط الدفاعي الأول والأكثر فعالية من حيث التكلفة، يتجلى دورها المحوري في الوقاية والتوعية من خلال برامج التطعيم والكشف المبكر والتثقيف الصحي، مما يقلل بشكل كبير من انتشار الأمراض المزمنة والمكلفة، ومن خلالها تتم إدارة الأمراض لتقديم رعاية متكاملة ومستمرة للأمراض الشائعة والمزمنة مثل السكري وارتفاع ضغط الدم، مما يمنع تطورها ويقلل من الحاجة إلى تدخلات مستشفيات باهظة الثمن، وكونها الأقرب إلى مجتمعاتها، تضمن الرعاية الأولية عدالة توزيع الخدمات لتصل إلى الفئات الأكثر احتياجاً ، و بتحسين كفاءة الرعاية الأولية، يتم تخفيف الضغط الهائل على المستشفيات المتخصصة، مما يسمح لها بالتركيز على الحالات الأكثر تعقيداً ، وعليه فإن أي إصلاح حقيقي لنظام التمويل يجب أن يوجه الاستثمار والموارد بشكل كبير نحو تعزيز البنية التحتية والقوى العاملة في قطاع الرعاية الصحية الاولية.
نتمنى أن يكون الملتقى قد خرج بتوصيات ومخرجات جوهرية على راسها: بلورة نموذج تمويلي مبتكرمن خلال التوصل إلى إطار استراتيجي لتمويل النظام الصحي في الأردن ( كنموذج ) يعيد هيكلة أولويات الإنفاق، مع زيادة حصة التمويل المخصص للرعاية الصحية الأولية والخدمات الوقائية. ونتوقع ايضا ان يكون الملتقى قد تبنى تعزيز الشراكات بين القطاعين العام والخاص من خلال فتح آفاق جديدة للاستثمار في القطاع الصحي، من خلال شراكات ذكية تزيد من كفاءة الخدمات وتُدخل الابتكارات التكنولوجية دون المساس بالعدالة. ونأمل أن يكون المجتمعون قد أجمعوا على اعتماد آليات تمويل ذكية: مثل التمويل القائم على النتائج، والتي تربط تدفق الأموال بتحقيق مؤشرات أداء صحية محددة، مما يضمن تحقيق أقصى استفادة من كل دينار ينفق.
ملتقى عمان تبنى ضمنا شعار "التمحور حول الإنسان" وبالتالي التأكيد على أن جميع السياسات التمويلية يجب أن تترجم في النهاية إلى تجربة أفضل للمريض، من خلال تقليل وقت الانتظار، وتحسين جودة الرعاية ، وحمايته من العبء المادي.
نتمنى أن يكون الملتقى قد وضع خارطة طريق تنفيذية، فليس الهدف من الملتقى مجرد نقاشات نظرية، بل ننتظر نتوقع أن يضع الملتقى خارطة طريق واضحة المعالم وجدولاً زمنياً لتنفيذ التوصيات، مع تحديد الجهات المسؤولة عن متابعتها.
خلاصة القول : إن "ملتقى عمان الأول لتمويل الصحة" ليس حدثاً عابراً، بل هو محطة انطلاق لمرحلة جديدة من النضج في إدارة القطاع الصحي، من خلال جعل الرعاية الصحية الأولية محوراً للإصلاح، والسعي نحو أنظمة تمويل مستدامة تضع الإنسان في قلب اهتماماتها، لا تُعزز الأردن صحّة مواطنيها فحسب، بل تبني أساس متين لمجتمع منتج ومستقر، قادر على مواجهة التحديات المستقبلية بمرونة وقوة،فالاستثمار في الصحة اليوم هو ضمان للازدهار غداً.