احمد سلامة يكتب : حزيران شهر الحزن واحتفالات ( الرأي ) !!

كيف لهذا الحزيران ان يظل منبعا للحزن ، وبوابة للفرح في آن واحد ؟!..
آخر الاحزان كانت حين ترجل فارسنا الحبيب ( محمد الخطايبة ).. ومضى حين مضى، كنهايات صلاة .
وآخر افراحنا الحزيرانية ذاك الاحتفال ( المبهر ) لـ صحيفة الرأي في ذكرى تكوينها، ولقد أبهرني عن بعد ذاك الاحتفال لأن دعاته ومنظموه لم يتذكروا قط أنني قد مررت ذات يوم على بابها !!! …
أبدأ.. من كان هناك في الخامس من حزيران ورأى بقلبه ما رأيت، لا يمكن أن يخلع الحزن من روحه، وانه لا بد أن يظل على ولاء للدولة حتى الممات لان الوطن والدولة شيء واحد .
قبل الغروب الحزيراني الصعب وفي التاسع منه سنة ١٩٦٧م كنت خلف حزام الصبار الدهري الذي يزنر الدونمات الاربع لجد أبي ، وهو المنزل الوحيد الذي له اسم بدلالة يمانية في كل بلدة بديا ( المقيل ) ، واضحت الشمس خيوطا تتكسر خلف الجبل لتنحدر الى المتوسط غارقة في مياهه حاملة كل احزان القلوب المكسورة بالهزيمة التي اشهرت للتو .
كنت فتى ألاعب الشمس والصبار والحزن .. وهفت أول موجة من غناء عبري لمجندي ومجندات جيش الاعتداء اليهودي، حين جاسوا ديارنا قادمين من الشرق ووصلوا بلدتنا بديا الحدودية تقريبا مع الغروب .
كان اسم عبدالناصر هو المتلازمة الموسيقية لدبكاتهم ويعيدونها كل دقيقة، واصلت السمع لكني لم افقه من غناءهم المتوتر المسعور سوى اسم ( عبدالناصر ) كان صورة الهزيمة وتعبيرها الابرز .
في تلك اللحظات الماحقة لكل شعور انساني الهزيمة اكثر لفظة تحوي قبحا انسانيا، والهزيمة تعبر فيك ولن تخرج منك حتى الممات.. ولذا فإني متفائل جدا بأن ما فعلته الفئة الاسلامية في غزة بمشروع الكيان اليهودي سيترك اصداءه لاحقا في التكوين النفسي لكل دعاة المشروع الاسرائيلي لان اليهود قد هزموا !!!..
مع صراخ اليهود المدَوي المستبيح لارواحنا واشجارنا وشوارعنا واحلامنا .. كانت سرايا حجابات الجيش العربي قد تبددت تحت وابل القصف الجوي المريع واضحى الانسحاب فوضى موجعة .. وعلى حين فجأة .. سقط حجر بجواري من خلف حجاب الصبار .. تنبهت من الكوة الموجودة بجواري كان جنديا عربيا اردنيا بكامل قيافته وسلاحه ايضا ..
يناديني: يا شاب ، ابوك هون ؟؟
هرعت مسرعا لوالدي الذي كان يتوضأ واخبرته .. ما زلت احتفظ بطريقته كيف أزاح ابريق الوضوء من بين يديه وركض صوب حيث كنت !! .. تحادثا بحماس كأنهما على أخوة قديمة
ومد الجندي البارودة لأبي وأمسك بطرفها وأعان العسكري بالسحب ليقتحم الكوة الى داخل المنزل ..
كان العسكري من حجابات بلدة ( مسحة ) التي تبعد كيلو متر ونصف عن كفر قاسم !!
أعدّ الماء للحمّام، وذبح ديكًا من الحبش، وتعشى الضيف كان ذاك الجندي الشهم من بلدة ( حمامة ) ، واستبدل لباسه العسكري ب ( قمباز ) من الوالد ، وكوفية وعقال
وتحول الى فلاح .. بعد العشاء مباشرة تعانق مع والدي وغادر على دروب لا يعرفها الا من حرثها بدمه ..
تلك صورة حزيران التي خلدت في داخلي عززها ما استمعت اليه ، من طرف الحديث الذي تبادله الجندي مع والدي …
كانت القصة كلها ( سلاح الجو ) ..
وما زلنا نعاني من امتلاك يهود لسماءنا العربية ..
ألتمس من القارئ أن يعذرني فأنا لا أحكي في السياسة هذا اليوم، بل إنني أعرض روحي من دون اية دوافع ولا اي غرض ..
وجئنا الى عمان لا بالنازحين ، ولا باللاجئين، جئت طالبا انتقلت من محافظة نابلس الى مخافظة عمان لان معدلاتنا عالية واخترنا الجامعة الاردنية، لانها جامعتنا.. بعد ذلك
تغيرت الازمنة والتسميات والعلاقات لكني لم أزل أحب أن أرى نفسي في تلك التشاركية التي رأيتها دمعا وحبا وحزنا بين أبي وجندي حمامة .. لم يقنعني احد ان هناك فروقا حقيقية بين ابن نابلس وابن السلط .. ربما في السياسة وحمقى الديبلوماسية بقادرين على افتعال تفاوت هنا وهناك .. لكن ليس اعذب من ايمان العجائز بفكرة الوحدة ( مين بصحلو وحدة مثل الاردنيين والفلسطينيين ) ويتنازل عنها سوى احمق او متامر ؟!..
حضرنا لقاءً مع سموّ الأمير الحسن" كارولين فرج وانا" وتحدثنا في حضرة الامير بحضور وزير الاعلام، ومن ضمن ما التمسته ان نذهب الى الجنوب لنكون مصدر الاعلام بدل الاعلام الاجنبي .. ووافق سموه ، ورحنا الى الجنوب "كارولين فرج ومجيد عصفور وانا ومصور بطبيعة الحال كان يوسف العلان" وقضينا اياما طوالا في الجنوب وكتبنا رأي الناس كما كانوا يحبون ان يقولوا.
واشهد ان الاستاذ راكان المجالي لم يبخل علينا بأي شيء ولم يقيد او يحد من تدفق حروفنا قط ..
كل يستطيع الادعاء انه اسهم في اعانة الدولة على الانفتاح والديمقراطية، ونحن من حقنا الادعاء ان حلقات ( الرأي ) ١٧ حلقة بعنوان رأي الناس قد كانت احدى روافع حلحلة الوضع في ذلك العام الصعب …
في الثاني من حزيران استدعينا القيادات الوسيطة في الاعلام الاردني للقاء مع جلالة المغفور له سيدنا الحسين، مثل الرأي في ذلك اللقاء الباذخ في ملكيته وحسنه "كارولين فرج ، مجيد عصفور ، وانا" يومها تحدثنا كلاما واضحا وصريحا وصادقا .. كان ذوقان الهنداوي رحمه الله رئيسا للديوان الملكي الهاشمي، كان الرواح ايامها الى المقر السامي
عزيزا واستثنائيا .. ومعالي نصوح المجالي وزيرا للاعلام .. ومعالي عدنان ابوعودة مستشارا لسيدنا وصاحب السمو الملكي الامير الحسن .. وترأس الاجتماع جلالة المغفور له سيدنا الحسين ..
يومها قالت الرأي كلاما كبيرا ويومها اسعد كلامنا الحسين رحمه الله.. وجاء الخامس من حزيران وكتبت فيه مقالا بعنوان :"الخامس من حزيران بين احمد سعيد والافتدية !!! " تناولت فيها حزني في ضياع الضفة الغربية ..
أتذكر أنني قرأت المقال تحت عمود الكهرباء مقابل مبنى الرأي الذي أعرفه، قال لي مجيد مقال رائع وناضج واثنى عليه بمحبة اخوية !!!
في اليوم التالي.. ارسل جلالة الملك الحسين رسالة لي و للرأي في سابقة في التاريخ بين الحاكم والاعلام بأن إقتبس جلالته مقالتي كرأي له وموقف ارسله الى الامة الاردنية
وادرك سيدنا في بوحه قوله ان عدم دخول الحزب كان واردا ومقلقا ايضا ..
إن رسالة الحسين للرأي هي اسمى درجة من البذل والعطاء قدمها صحفي لصحيفته، وكما ذكر المرحوم الاستاذ صلاح عبدالصمد في افتتاحية الرأي حينها انها سابقة نعتز بها في الرأي بأن يقتبس الحاكم من الصحفي وليس التشظي والحزن في مقالة الغالي عبدالهادي الراجي المجالي حول احتفال الرأي حفز حزني للبوح …
رغم انني لم أزر الرأي منذ أن غادرتها عام ١٩٩٣ م سوى مرات ثلاث، والمبنى الجديد دخلته مرة واحدة.. لكن احتفال الرأي
انساني او كاد انني جئتها ابيض القلب وغادرتها ابيض الرأس.. الرأي حين كنا فيها كانت تدر على الخزينة ملايين ولا يتحكم في قرارها ضمان وحكومات واجهزة وغيرها.. كانت الرأي مدرسة تجهيز للوطنية وليس من طبعي ان افسد على أحد فرحته .. واهنئ كل من نقط واللي ما نقط، لكن ثمة حقوق تراكمية لا يجوز ان تمحي الناس ذاكرة وطن
أعتب بشيء من الدعاء أن يبقي الرأي صامدة.. هذه الرأي التي اولها شهيد هو ( سليم الشريف ) قتله فصيل فلسطيني متشدد بعد ان جهز وأعد كل شيء للبدء، وسليم الشريف لا صلة له بآل الشريف هو من الخليل وكان حبيب الحسين وصاحب جريدة الجهاد وهو اول من احضر ( الاوفسيت ) للاردن وقتل بعد ان اختطف من فندق الاردن..
من الشهادة بدأت الرأي وكل من جاء بعده زم الحبر الى الدمع والجهد الخلاق .. انا لم اعرف من دعي ومن لم يدعَ، لكن الحبيب المصطفى صلوات الله عليه حث على ( أن ننزل الناس منازلهم ) .
مبروك للرأي فرحتها ..
كنت دوما اثني على غسان شربل حين عنون كتاب عن الشهيد صدام وبمكر مهني لبناني لا يبارى كتب ( مر من هنا ) ..
في احتفال الرأي نسيت أنني مررت بها .. التراجع حين يقع يتم على كل الاصعدة ..
وجدت من حقي على الرأي أن أعيد نشر رسالة جلالة سيدنا لي وللرأي هذا اليوم فلقد مررنا من هناك ذات اشراق وطني لا يمحَ التاريخ بالتجاهل انى كان جبروت المتجاهلين !!..