د. محمد العرب : صبيح المصري الاسم الذي أيقظ ذاكرة البحر

حين دُعيت لإلقاء محاضرة في واحة آيلة، ظننت أنني متجه إلى مشروع سياحي مثل سواه، منتجع جميل، مبانٍ فاخرة، وربما شاطئ مرتب ولكن ما إن وطأت قدماي تلك الأرض التي تُصافح البحر بأناقة، حتى شعرت أنني دخلت فكرة لا مكان، آيلة ليست وجهة فقط بل رؤية حية تُمارس الذكاء المعماري والاقتصادي والبيئي في آنٍ واحد.
منذ اللحظة الأولى، لفتني شيء غريب: المكان لا يستعرض نفسه، بل يحتضنك، كل زاوية تحكي حكاية، كل تفاصيل البناء والماء والهواء توحي أن من أنشأ هذا الحلم لم يكن يلهث خلف ربح، بل كان يسابق الزمن ليرسم المستقبل.
وقفت أمام البحيرات التي شُقّت خصيصاً لتجعل البحر يدخل الأرض وكأنه مدعوّ بأدب. نظرت إلى مسارات المشاة والحدائق والهندسة الصامتة التي تقول أكثر مما تنطق. وسألت نفسي سؤالاً واحداً..؟
من هذا الذي أقنع البحر أن يتقدّم دون ضجيج ويترك خلفه مدينة تُدهشك دون أن ترفع صوتها؟
في آيلة، ألقيت محاضرتي. لكن في الحقيقة، آيلة هي التي ألقت محاضرة عليّ عن الطموح، وعن الذكاء، وعن كيف يصنع رجلٌ مثل صبيح المصري من فكرة عابرة معلماً خالداً.
حين تنظر إلى خارطة الأردن، وتحديداً الجنوب الممتد نحو مياه العقبة، سترى شيئاً لا يشبه أي امتداد آخر، هناك لا يتسلل البحر إلى اليابسة بعشوائية الطبيعة، بل بانضباط الرؤية وجرأة الحلم. وحين تسأل: من جرّأ البحر؟ من غيّر وجهة الموج؟ ستجد الإجابة تتجسّد في عبقري اسمه صبيح المصري لا يكتفي بالتفكير خارج الصندوق، بل هو الرجل الذي ألغى وجود الصندوق من الأساس.
واحة آيلة ليست مشروعاً عقارياً، ليست وجهة سياحية عادية، إنها إعلان حضاري عن عبقرية يمكنها أن تُقنع الماء بأن يتبعها. لقد صنع المصري شيئاً لم تسبق إليه مدينة عربية: شق البحر، ومد أنامله إلى اليابسة، وغرس فيها ما يشبه الفردوس !
17 كيلومتراً من الواجهة البحرية لم تكن منحة من الطبيعة، بل نتيجة معادلة عقلية، رسمها رجل يفهم المال كتعبير عن الفكرة، والفكرة كأداة للتغيير.
ولد صبيح المصري في نابلس، لكنه وُلد ليكون رجل دول، لم يحمل في جيبه فقط جواز سفر، بل خرائط لأوطان اقتصادية جديدة. أينما حل، أعاد تعريف (الجدوى) من البنوك إلى الصناعة، ومن التجارة إلى الزراعة، وحتى حين اقترب من السياحة، لم يفعل كما يفعل الآخرون. لم يبنِ فندقاً ولم يملأ الشاطئ بكراسي ملونة بل بنى مدينة اسمها آيلة، تُشبه جزءاً من قلبه.
لكن ما لا يعرفه كثيرون، أن صبيح المصري لا يُبهر فقط بقراراته الاستثمارية، بل بشيء أعمق: إنسانيته التي لا تتنازل، رغم كل ما يفرضه عالم المال من قسوة. رجل تُصافحه فتشعر أنك أمام شجرة زيتون عمرها مئة عام، راسخة، هادئة، مثمرة. يسمع أكثر مما يتكلم، وحين يتكلم، لا يُلقي خطاباً بل يفتح نفقاً من المعنى.
هل تعرف ماذا يعني أن تقتحم سوقاً مشبعة، وتنجح؟ هذا ما فعله المصري في كل مكان ذهب إليه. لكنه في العقبة، لم يقتحم فقط السوق بل اقتحم الجغرافيا. صنع بحراً داخلياً، وبحراً عاطفياً، وبحراً استثمارياً في ضربة واحدة. واحة آيلة هي تلخيص لشخصيته: فكرة جامحة، بتنفيذ دقيق، وإخلاص حقيقي للمكان الذي يقف فيه.
حين تمشي في آيلة، تشعر أنك تمشي داخل عقل رجل. كل زاوية تهمس لك بقصة، كل مبنى يروي سطراً من سيرة، وكل موجة بحر داخلية تقول لك: هذا المكان من صنع من لا يؤمن بالمستحيل !
ليس من السهل أن تُبهر البحر، لكن صبيح المصري فعلها، هو لا يرى في الاستثمار أرقاماً فقط، بل حكايات بشر، يضع الإنسان في صلب معادلاته، سواء كان عاملاً بسيطاً أو مديراً تنفيذياً، يؤمن أن كل فكرة عظيمة، لا تنجح إلا إذا احترمت الناس أولاً وهذا ما جعل العاملين معه لا يشعرون أنهم موظفون، بل رفاق في حلم مشترك كما أخبروني.
وعلى المستوى الفكري، صبيح المصري ليس مجرد رجل أعمال ناجح، بل مفكر اقتصادي، يؤمن بأن رأس المال يجب أن يكون أداة لتحرير المجتمعات من التبعية، لا أداة لتكريس السلطة أو الجشع. يدير أعماله كما تُدار الأوركسترا: بانضباط، وإلهام، وإيمان خالص بأن النجاح لا يكون فردياً بل هو حالة جماعية.
ورغم انشغالاته، لم يتخلَّ يوماً عن مسؤولياته الوطنية والعربية. ظلّ صادقاً في مواقفه، مخلصاً لفلسطين، داعماً للأردن، مؤمناً بأن التوازن بين القومية والاحتراف ليس معادلة صعبة، بل واجبٌ على من امتلك الصوت والمنصة.
صبيح المصري رجل تُعجب به من أول دقيقة، وتؤمن به من أول مشروع. لا يُبهر بالثرثرة، بل بالفعل. لا يُعلن نفسه في الصحف، بل في التفاصيل. هو الرجل الذي جعل العقبة أكثر من مرفأ، وجعل آيلة أكثر من حلم. هو النسخة الحيّة من مبدأ: لا تقل لي ماذا ستفعل بل افعل، ثم دع الأشياء تتكلم عنك..
واحة آيلة ستبقى علامة مسجلة في تاريخ المدن العربية. لكنها أيضاً ستبقى توقيعاً فريداً لصبيح المصري على صفحة من صفحات المستقبل الأردني. مشروع جمع بين الحداثة والبيئة، بين الحلم والعقل، بين الاستدامة والجمال. وكما أعاد تعريف العقبة، أعاد تعريف المعنى الحقيقي للمستثمر: أن يكون صاحب أثر، لا فقط صاحب رأس مال.
وفي زمن يطغى فيه الضجيج، يختار صبيح المصري الصمت المُنجز. وفي عالم تُقاس فيه القيمة بعدد المتابعين، يختار أن تُقاس بقيَم لا تُحصى. رجل لا يُعطيك ما تريده من كلام بل يُريك ما لم تتخيله من نتائج.
وإن كانت آيلة حديث الناس، فصانعها هو حديث الصمت الحكيم. رجل لا يبحث عن التصفيق، بل عن مشروع يصفق له المستقبل.
أما أنا فقد قرأته ووجدت فيه ما لا يُختصر في سيرة: إنسان يحترم الفكرة، ويتواضع أمام الفعل، ويُبقي لنفسه ظلاً طويلاً لا تراه العين لكنك تشعر به حين تمرّ قرب أي شيء بناه.