جمال القيسي : لعبة تضليل جمهور الناخبين عبر تسييس الدين

منذ أوائل سبعينيات القرن الماضي، أُوكلت وزارة التربية والتعليم في الأردن عمليًا إلى جماعة الإخوان المسلمين، إما بشكل مباشر عبر الوزراء أو ضمنيًا عبر المستشارين والموجّهين والمحتوى، فتم تذخير المدارس وتدجيجها برموز وأفكار الجماعة، لا بوصفها مكوّنًا اجتماعيًا ضمن تعددية أردنية، بل باعتبارها المرجعية الوحيدة للإسلام والتقوى والوطنية. ما حدث لم يكن شراكة، بل تفويضًا أيديولوجيا أدّى إلى صياغة وعي أجيال كاملة، على مقاعد الدرس، بمنطق الجماعة، لا بمنطق الدولة.
لم يكن هذا الامتياز التربوي مجرد غلبة تنظيمية، بل كان تأسيسا لهيمنة ثقافية حملت آثارها إلى النقابات والجامعات ومجالس الطلبة وحتى البرلمان. وتدريجيًا، بدأ يُنظر إلى التصويت للإخوان لا باعتباره خيارًا مدنيا، بل واجبًا دينيا، بينما أُلبس التصويت لغيرهم ثوب الذنب، وربما المعصية. بهذا التشويش المُمنهج، تم سحب الفعل السياسي من فضائه العقلاني إلى فضاء عاطفي مفعم بالثواب والعقاب، حيث صناديق الاقتراع تتحوّل إلى صكوك فتوى ضمنية، يخرج منها "الملتزم" مؤيدًا، و"المقصّر" معارضا أو صامتا.
لقد أُنتجت بيئة نفسية تجعل من الحياد السياسي تفريطا، ومن معارضة الجماعة خصومة مع الدين ذاته. وتحوّل الفضاء المدني إلى حقل طاعة، يُعاد فيه تعريف الوطنية بمدى القرب من خطاب الجماعة، لا من الولاء للدولة.
هذا التداخل بين العقيدة والسياسة يعيدنا إلى ما قاله كارل ماركس في مقدمة كتابه نقد فلسفة الحق عند هيغل، الذي كتبه عام 1844م حيث قال:
"إن الألم الديني هو، في الوقت نفسه، تعبير عن ألم واقعي واحتجاج على ألم واقعي. فالدين هو زفرة الكائن المقهور، قلب عالم لا قلب له، وروح أوضاع لا روح لها".
وماركس، بالمناسبة، لم يكن ضد الدين كما يحب أن يروج لذلك البعض، إنما سعى لتفكيك الدور الوظيفي الذي يؤديه الدين حين يُستخدم كأداة إيديولوجية لخدمة القوى المهيمنة؛ فالمتدين، من هذا المنظور، ليس خصمًا، بل ضحية مزدوجة: واقع مأزوم يدفعه إلى الوهم، وسلطة سياسية تستثمر ذلك الوهم لتثبيت نفوذها.
وإذا كان ماركس قد لام المؤسسة، لا الإيمان، فإن السيكولوجي الفرنسي غوستاف لوبون ذهب في كتابه الشهير "سيكولوجيا الجماهير" الصادر عام 1895 إلى توصيف آلية هذه السيطرة، حين تحدّث عن "العدوى النفسية" و"الاستجابة اللاواعية" في الجماهير، والتي تجعل من الحشود عرضة للتماهي مع صور رمزية، لا مع برامج عقلانية. وهذا ما أتقنته جماعة الإخوان، حين أعادت صياغة صورة المرشح السياسي بوصفه "المرشح التقي"، متجاوزة بذلك اعتبارات الكفاءة والتعددية والبرامج، لصالح السمت الديني والمظهر التعبّدي.
هذه الظاهرة ليست حكرًا على الأردن. ففي مصر، جاءت نتائج انتخابات 2011 تعبيرًا عن حالة دينية نفسية، أكثر مما عبّرت عن مفاضلة بين رؤى وطنية. وفي تونس، خلال المرحلة الانتقالية ما بعد 2011 نجحت حركة النهضة في ركوب "الموجة الثورية" تحت مظلة التدين، قبل أن تبدأ بفقدان رصيدها تدريجيًا مع انكشاف خطابها الأحادي وعدم قدرتها على استيعاب الطيف المدني. أما في الجزائر، فقد أدى الخلط بين الشعارات الإسلامية والسياسة إلى إشعال صراع دموي كارثي في تسعينيات القرن العشرين. وفي السودان، منذ انقلاب 1989 تَحوّل الدين إلى سلطة قمعية غلّفت فساد الحكم بشعارات الشريعة.
وعلى النقيض من ذلك، فإن تجربة إسبانيا ما بعد ديكتاتورية فرانكو (1939–1975) قدّمت نموذجًا تحرريًا، حيث أُعيد وضع الدين في موقعه الطبيعي، لا كأداة حكم، بل كجزء من حرية الضمير، وهو ما أفسح المجال لنهوض تيارات مدنية حديثة تقود دولة عصرية، دون أن تمسّ بالإيمان الشعبي.
في هذا الإطار، لا بد من تأكيد أن الدولة المدنية لا تُخاصم الدين، بل تحترمه بتحييده عن الاستقطاب السياسي؛ فالدين في الدولة المدنية محفوظ في وجدان الفرد، لا في شعارات المرشحين، وفي المساجد والكنائس والبيوت لا في صناديق الاقتراع. الدولة المدنية لا تلغي الإيمان، بل تصونه من التوظيف والابتزاز، وتعيد للمواطنة معناها، بعيدًا عن التديّن الظاهري أو الاصطفاف الهوياتي.
إن تأمل ما جرى في الأردن خلال العقود الماضية يكشف أن تغييب الصوت اليساري والتقدمي ـــ سواء بفعل تهميش رسمي أو تشويه ممنهج من خصومه السياسيين ـــ لم يكن مجرد خسارة تيار، بل إضعاف لركيزة استراتيجية من ركائز التعددية الأردنية. الصوت اليساري ليس دخيلًا، بل مكوّن تاريخي في وجدان المجتمع، وقد حملته مع الأحزاب نقابات ومعلمون وطلبة وعسكريون ومثقفون منذ الأربعينيات والخمسينيات. إن كسر احتكار الحركات الإسلامية للتمثيل "النيابي" للشعب يتطلب إعادة الاعتبار الثقافي والحزبي والمجتمعي لهذه الأصوات، لا تسويقها بوصفها بدائل اضطرارية.
وفي سياق مشروع التحديث السياسي الأردني، فإن إدماج هذا اللون الفكري، لا تهميشه، يصب في مصلحة الاستقرار والنمو والتجانس الوطني. والدولة التي تُراهن على التجانس لا يمكن أن تبنى على صوت واحد، بل على تنوع لا يُقصي، وعلى مساحة لا تُختزل في شعار.
لا أحد يطلب من المتدين أن يتخلى عن إيمانه، بل أن يدرك أن الإيمان لا يُقاس بورقة اقتراع، وأن المرشح الصالح ليس بالضرورة من يُكثر الصلاة والصيام والقيام؛ فالعبادات علاقة عمودية ضميرية بين الإنسان وربه، وليست أفقية بين المرشح والهيئة العامة لأية انتخابات، وحين يعود الدين إلى مكانه النقي في الضمير الفردي، ويتحرر من سطوة السياسة، يتحقق إيمان لا يخاف من النقد، وسياسة لا تتخفى بالدين، ووطن لا يُختزل في جماعة.