الأخبار

أ. د. ابراهيم الجراح : الاستقلال: نظرة تأمل للمستقبل

أ. د. ابراهيم الجراح : الاستقلال: نظرة تأمل للمستقبل
أخبارنا :  

بمناسبة عيد الاستقلال للوطن العظيم الاردن، أرفع أسمى آيات التهنئة والتبريك إلى مقام حضرة صاحب الجلالة الهاشمية الملك عبد الله الثاني ابن الحسين المعظم، وولي عهده الأمين، وإلى الشعب الأردني العظيم الأبي، الذي أثبت عبر تاريخه العريق أن حب الوطن والعمل من أجله متجذران في قلب كل أردني وأردنية. هذا اليوم لا يمثل فقط ذكرى إعلان الاستقلال، بل يعيد إلينا روح التضحية والبناء، ويجدد فينا الإيمان بأهمية أن نصون ما تحقق، ونواصل المسيرة بما يليق بطموحات الوطن ومستقبل أجياله.

إن عيد الاستقلال هو مناسبة نسترجع فيها تاريخًا وطنيًا مشرفًا، ونقف بإجلال أمام التضحيات التي قدمها الآباء المؤسسون، والقيادة الهاشمية الحكيمة، لبناء دولة حديثة ذات سيادة، تنطلق من ثوابت راسخة وهُوية وطنية متينة. ومع تعاقب الأجيال، تتغير التحديات وتتطور الأدوات، ويبقى الهدف واحدًا: الحفاظ على استقلال الوطن، وتعزيز مكانة الأردن بين الأمم.

وفي هذا السياق، تبرز أمامنا اليوم مسؤولية جديدة، لا تقل أهمية عن مسؤوليات الأمس، وهي مسؤولية تحقيق الاستقلال التقني والمعرفي، في ظل التحولات المتسارعة التي يشهدها العالم بفعل الثورة التكنولوجية، وعلى وجه الخصوص التقنيات الناشئة واهمها الذكاء الاصطناعي. لقد أصبح من الواضح أن مفاهيم الاستقلال لم تعد تُقاس فقط بالحدود والسيادة السياسية والجغرافية، بل باتت تشمل القدرة على امتلاك التكنولوجيا وصناعتها، والتحكم في البيانات وسيادتها، وبناء نظم رقمية آمنة ومستقلة لخدمة الوطن والمواطن.

الاستقلال التقني هو تعبير حديث عن جوهر الاستقلال ذاته، لأنه يمنح الدولة القدرة على اتخاذ قراراتها بناءً على معلوماتها وأدواتها، بعيدًا عن التبعية التكنولوجية. ولعلّ أوضح تجليات ذلك هو أهمية أن يكون لدينا حلول وطنية في مجالات التعليم والصحة والخدمات الحكومية، ترتكز على بنية تحتية رقمية مرنة، وتشريعات داعمة، وأطر حوكمة رقمية تراعي الخصوصية وتحمي السيادة والقدرة على التحكم والادارة.

فالذكاء الاصطناعي لم يعد رفاهية تقنية أو مشروعًا مستقبليًا، بل أداة حيوية حاضرة في صميم عمليات صنع القرار والتنمية. ويمكن لتقنياته أن تُحدث تحولًا جذريًا في جميع المجالات منها جودة التعليم من خلال تصميم منصات ذكية تراعي الفروق الفردية بين الطلبة، وتوفر محتوى تعليميًا يتناغم مع هويتنا الوطنية بالإضافة الى امكانية تسخير الذكاء الاصطناعي في القطاع الصحي لتقليل أعباء الكوادر الطبية من خلال التشخيص المبكر، وإدارة السجلات الطبية، وتحليل البيانات الصحية بطرق دقيقة وسريعة.

ولا يتوقف الأثر عند هذا الحد، بل يمتد ليشمل الزراعة الذكية، والطاقة، وإدارة المدن، وحتى تعزيز الشفافية وكفاءة المؤسسات الحكومية. والأهم أن نوجّه هذه الأدوات بما يخدم المواطن، ويراعي خصوصية الدولة، ويعبّر عن لغتنا وثقافتنا، بدلًا من الاكتفاء باستخدام نماذج جاهزة لا تنتمي إلى سياقنا المحلي او الثقافي.

لكن هذا الطموح لا يتحقق إلا من خلال الاستثمار الحقيقي في الإنسان الأردني، الذي أثبت كفاءته على المستويات الإقليمية والدولية. فلدينا نخبة من الشباب القادر على قيادة هذه المرحلة، إذا ما أتيحت له الفرصة، وتم تزويده بالمهارات اللازمة في مجالات التكنولوجيا الحديثة والذكاء الاصطناعي، وتحليل البيانات، والبرمجة، والتفكير الابتكاري خارج الصندوق. من هنا، فإننا بحاجة إلى استراتيجيات وطنية تعزز الشراكة بين الجامعات ومراكز الأبحاث والقطاعين العام والخاص، وتدفع نحو إنشاء مراكز وطنية متخصصة في التكنولوجيا والذكاء الاصطناعي وتطبيقاته التنموية.

ومع هذا التحول، ينبغي ألا نغفل أهمية السيادة الرقمية كأحد أركان الاستقلال الحديث. فالتحكم في بيانات المواطنين، وحماية الخصوصية، وضمان أمن البنية التحتية الرقمية، هي مسؤوليات وطنية بامتياز. ويجب أن نؤسس لسياسات توازن بين الانفتاح على العالم من جهة، وحماية المصالح الوطنية من جهة أخرى، بحيث نشارك في الاقتصاد الرقمي العالمي بشروطنا، ومن موقع قوة ومعرفة.

وبينما نحتفل بهذا اليوم الوطني المجيد، فإننا مدعوون إلى أن ننظر للاستقلال ليس فقط كإنجاز تاريخي تحقق، بل كمشروع مستمر، يتجدد كلما تطورت التحديات وتغيرت أدوات السيادة. إن معركة الاستقلال اليوم لم تعد بالسلاح، بل بالمعرفة، وبالقدرة على إنتاج التقنية، والتأثير في صناعة القرار العالمي من خلال الإبداع والابتكار.

نعم، الأردن قادر على أن يكون نموذجًا في العالم العربي للاستقلال الرقمي، إذا ما أحسنا توظيف طاقاتنا، واستثمرنا في شبابنا، وتسلحنا بالإرادة السياسية والعلمية الكافية لتحويل التكنولوجيا والذكاء الاصطناعي من ملف تقني عابر إلى مشروع وطني سيادي بمعنى الكلمة وان نبني على الجهود التي بذلت وتبذل في هذا الملف الهام.

وفي الختام، يبقى عيد الاستقلال مناسبة نعتز بها، ونستلهم منها دروس الماضي، لنرسم بها ملامح المستقبل. مستقبل يؤمن فيه الأردنيون أن الاستقلال لا يُقاس فقط بما نملكه من موارد، بل بما نملكه من إرادة وإبداع وقدرة على صياغة نموذجنا الخاص في التنمية، والسيادة، والنهضة التقنية والرقمية.

حفظ الله الأردن، قيادةً وشعبًا، ودام استقلاله نبراسًا نهتدي به في طريق التقدم والكرامة والريادة.

مواضيع قد تهمك