حسام الحوراني : كيف يغيّر الذكاء الاصطناعي الكمي العقيدة العسكرية؟

حسام الحوراني : كيف يغيّر الذكاء الاصطناعي الكمي العقيدة العسكرية؟
أخبارنا :  

في صمت المختبرات العسكرية المغلقة، وفي زوايا مراكز الأبحاث الاستراتيجية، تُعاد كتابة القواعد التي حكمت الحروب لعقود. لم تعد العقيدة العسكرية تدور فقط حول الجنود على الأرض، والدبابات في الميدان، والطائرات في السماء. هناك الآن لاعب جديد، لا يرتدي الزي العسكري، ولا يحمل السلاح، لكنه يتسلل إلى كل قرار، وكل عملية، وكل اشتباك. إنه الذكاء الاصطناعي، القوة الخفية التي تعيد تشكيل جوهر الحروب، ومعنى النصر، وسرعة القرار، بل حتى أخلاقيات الصراع ذاته.

الذكاء الاصطناعي لا يُضاف إلى الجيوش كما تُضاف دبابة أو قاذفة جديدة، بل يدخل كعامل تغييري جذري، يضرب في عمق العقيدة العسكرية التقليدية. الحروب التي كانت تُخاض بالقوة البشرية، تُدار الآن بالأتمتة، والتعلم الآلي، وتحليل البيانات الفوري. تُصبح المعركة ليست فقط بين جنود، بل بين خوارزميات، بين من يستطيع أن يتوقع حركة العدو قبل أن يتحرك، ويشوش عليه قبل أن يخطط، ويضربه في عمق منظومته دون إطلاق رصاصة واحدة.

لم يعد الزمن وحده هو عنصر المفاجأة في الحروب، بل أصبح التنبؤ نفسه سلاحًا. الذكاء الاصطناعي قادر على تحليل ملايين الإشارات والبيانات والمواقع والصور في لحظات، ويقدّم لقائد المعركة سيناريوهات متعددة مع ترجيحات احتمالية، تُمكّنه من اتخاذ قرار حاسم أسرع من العدو. لم تعد القيادة العسكرية تُبنى فقط على الحدس والخبرة، بل على منظومة من الذكاء التنبؤي الذي يرى ما لا يُرى، ويفهم ما لا يُقال.

الدرونات الذكية التي تطير بلا طيار، وتضرب بلا إنذار، لم تعد مشاهد خيالية في أفلام الخيال العلمي، بل أصبحت أدوات واقعية تُستخدم في أكثر من ساحة صراع. تلك الدرونات لا تحتاج إلى طيار يتحكم بها لحظة بلحظة، بل تعتمد على أنظمة رؤية حاسوبية، وذكاء اصطناعي يُميّز الأهداف، يُقيم التهديدات، ويقرر الهجوم أو التراجع. إنها آلات قرار ذاتي، تحمل في داخلها سؤالًا أخلاقيًا مرعبًا: من الذي يتحمل المسؤولية إذا أخطأت؟ من يُحاسب خوارزمية على قتل مدني؟ ومن يُعيد الإنسانية إلى قلب المعادلة حين تتجرّد الحرب من عواطف البشر؟

أكثر من ذلك، الذكاء الاصطناعي يدخل في صميم الحرب السيبرانية. الجيوش الآن لا تُعد فقط قوتها من حيث عدد الجنود والدبابات، بل من حيث قدراتها على اختراق الأنظمة، وزرع الفيروسات الرقمية، وتفكيك الشبكات، وتعطيل الأقمار الصناعية. الحرب الحديثة تبدأ بزرع كود في نظام العدو، وقد تنتهي بانهيار شبكة الكهرباء، أو تشويش الاتصالات، أو حتى إسقاط الاقتصاد دون رصاصة واحدة. إنها حرب صامتة، باردة في ظاهرها، مدمرة في جوهرها.

لكن التحدي الحقيقي الذي يواجه الجيوش الحديثة ليس في امتلاك الذكاء الاصطناعي فقط، بل في كيفية دمجه في منظومة القرار. كيف نحافظ على مبدأ السيطرة البشرية في قرارات إطلاق النار، في تقييم التهديدات، في حفظ القانون الإنساني الدولي؟ كيف نمنع انحراف الأنظمة الذكية، أو اختراقها، أو استخدامها بشكل غير أخلاقي؟ كيف نُعيد تعريف القيادة العسكرية حين يصبح القرار مشتركًا بين الإنسان والآلة؟

لكن الذكاء الاصطناعي ليس وحده في هذا الميدان؛ فهناك قوة صاعدة بدأت تحفر لنفسها مكانًا في المعادلة العسكرية الجديدة، وهي حواسيب الكم. هذه الآلات الخارقة لا تُجيد فقط الحسابات الفائقة، بل تُغيّر جذريًا منطق القرار العسكري ذاته. في العقيدة العسكرية التقليدية، كانت المعلومات تُحلل على مراحل، أما اليوم، فبفضل الحوسبة الكمومية، يمكن معالجة عدد غير مسبوق من المتغيرات والاحتمالات في اللحظة نفسها، ما يتيح بناء سيناريوهات حربية آنية، شديدة التعقيد، تحاكي آلاف التفاعلات المحتملة في أرض المعركة خلال جزء من الثانية. حواسيب الكم تستطيع أن تفك تشفير بيانات العدو في وقت قياسي، وتُعيد تشكيل نظم الدفاع الإلكتروني في لحظات، وتضع القادة أمام صورة شاملة متغيرة باستمرار تساعدهم على اتخاذ قرارات تتسم بالدقة والتوقيت الاستراتيجي. إنها لا تُسرّع المعركة فقط، بل تعيد تعريف معنى أن تكون مستعدًا، وتضع اليد العليا بيد من يمتلك القدرة على التفكير الكمومي في التخطيط والتكتيك والتنفيذ.

الدول التي تُدرك هذا التحول، لا تركّز فقط على التسليح، بل على بناء منظومة عسكرية جديدة تفكر بلغة المستقبل. تُنشئ وحدات خاصة لتطوير الذكاء الاصطناعي وحواسيب الكم، وتُدرّب ضباطها على فهم التكنولوجيا، وتعيد تصميم استراتيجياتها لتلائم السرعة، والدقة، والتعقيد الذي يجلبه الذكاء الاصطناعي وحواسيب الكم. هي ليست مجرد تحديث للعقيدة، بل إعادة صياغة لها من الأساس.

أما في منطقتنا العربية، فإن الفرصة لا تزال قائمة، لكن النافذة تضيق. يجب أن ندرك أن السباق العسكري لم يعد فقط في شراء الأسلحة، بل في امتلاك المعرفة. الاستثمار في الذكاء الاصطناعي الكمي العسكري لا يعني فقط أن نكون مستهلكين لتقنيات الآخرين، بل أن نُنتج، ونُطوّر، ونُفكّر، ونُصمّم ما يناسب واقعنا وأمننا الوطني. علينا أن نبني جيوشًا تفهم المستقبل، لا فقط تُقلّد الماضي.

الذكاء الاصطناعي الكمي ليس مجرد أداة جديدة في ترسانة الحروب، بل عقل جديد يُعيد ترتيب الأوراق. من لا يفهمه، سيُهزم حتى قبل أن تبدأ المعركة. ومن يُحسن استخدامه، لن يحمي وطنه فقط، بل سيقود مستقبلًا تُكتب معادلاته ليس بالبندقية بل بالكود. لأن الحرب القادمة، في جوهرها، ليست فقط معركة على الأرض بل معركة على الذكاء.


مواضيع قد تهمك