محمد ابو رمان : من يكتب الأردن؟!

من الجميل أن نشهد هذا الاعتزاز والافتخار لدى الأردنيين بيوم الاستقلال؛ بخاصة لدى نسبة كبيرة من جيل الشباب الذين يتعطشون للأغنية والصورة والكلمة المرتبطة ببلادهم، ومن الجميل أكثر أنّ هنالك وعياً رسمياً متزايداً، بخاصة منذ مئوية الدولة، بأهمية إعطاء قيمة كبيرة والاهتمام بالإعداد للاحتفالات الوطنية والتعريف بها، فهي في مختلف دول العالم مناسبة مهمة للجميع تعزز وتؤكّد على أهمية الوحدة الوطنية والمشاعر والعواطف والآمال المشتركة بين أبناء الشعب.
بالتوازي والتزامن مع هذا الاهتمام بالاحتفالات الوطنية؛ نما إدراك لدى مراكز ومؤسسات القرار بأنّ ثمّة مشكلة وفجوات واضحة ببناء قصة الوطن؛ ورواية سرديته؛ مما يعكس أيضاً وجود توجهات وجهود حالية في إعادة قراءة وكتابة التاريخ الأردني والاهتمام بذلك على صعيد المدارس والجامعات، وتتوجّه حكومة د. جعفر حسان حالياً لمنح أهمية أكبر ودعم الدراما الأردنية التي تُعنى بالسردية والهوية الوطنية.
هذه السياسات مهمة، بل ضرورية اليوم، في زمن تنهار فيه الهويات الوطنية وتدخل فيه الدول والمجتمعات في صراعات داخلية ودموية وتحيط خطط وسيناريوهات عديدة لتغيرات الجغرافيا السياسية، لكن المطلوب أن يكون ذلك كلّه منبثقاً من تفكير عميق وجماعي ونقاش بين نخب من العلماء والمفكرين والمثقفين والأدباء لبناء تصورات معمّقة في كيفية بناء القصة أو الحكاية الوطنية وكيفية تقديمها للجيل الجديد، ما هي القضايا المركزية في التاريخ الأردني؟ ما هي معالم الهوية الوطنية؟ ما هي قيم الدولة الأردنية؟ كيف عبر الأردن محطات تاريخية مفصلية وحافظ على الاستقرار والسلم الأهلي وكيف أصبحت الإدارة العامة الأردنية في العقود الماضية نموذجاً عربياً كبيراً؟ لماذا نجح الأردن في التعليم خلال تلك العقود؟
في المقابل ليس المطلوب بناء رواية دفاعية أو تبريرية سطحية؛ بل المطلوب بناء رواية تتأسس على فهم عميق وإدراك للشروط والسياقات والظروف التي أحاطت بالأحداث والتطورات والتحديات؛ وأن نفتخر بما حققناه وأنجزناه ونعترف بما أخفقنا فيه؛ أو حتى ما كنا نمثّل نموذجاً متقدماً فيه، ثم تراجعنا إلى الوراء بعد ذلك؟ ولماذا؟ أن نعرّف بالشخصيات المهمة في التاريخ السياسي الأردني؛ الآباء المؤسسين للدولة؛ أن نتعلّم من الدروس السابقة ونقرأ التاريخ لنفهم أنفسنا ودولتنا ومجتمعنا وننطلق منه لترسيم الطريق إلى المستقبل..
بناء القصة الوطنية ليس جهداً توثيقياً أو أرشيفياً أو كتابة تاريخية جافّة جامدة، كما يظنّ بعض السياسيين والأكاديميين، بل هو استنطاق واستحضار لروح الأمة ولشخصيتها ولتكوّنها ولصيرورتها؛ وهي عملية لا تجيب عن سؤال: ماذا حدث؟! بل أسئلة أكثر عمقاً وتحليلاً وتأطيراً؛ لماذا حدث؟ وكيف حدث؟! والمحددات والشروط التي أحاطت بذلك؟ وما هي آثاره ومؤثراته وأسبابه؟!
قبل أسابيع قليلة كان عبد الرؤوف الروابدة في منتدى الحموري للتنمية الثقافية يخاطب مئات الحضور، وجلّهم من الشباب، يتحدث عن سردية الدولة والبناء؛ وبالرغم من الطابع التاريخي الذي طغى على المحاضرة؛ وبالرغم من توقف المتحدث عند مرحلة الخمسينيات؛ إلاّ أنّ التعطّش والتشوّق لدى الحاضرين لهذه القراءة كان ملاحظاً، والإلحاح من قبلهم لاستكمال القراءة في محاضرات قادمة؛ كان كبيراً!
يقول الرئيس الروابدة؛ إنني لم أقم بشيء جديد؛ فقط ربطت الأحداث ببعضها وصغتها بما يجعلها واضحة للآخرين، لكن في الحقيقة ليس ذلك ما قام به فقط؛ هو استنطقها وربطها ووضعها في إطار حكاية مفهومة تستبطن التحولات والتحديات وفهم الصيرورة، وجعلها صورة مفهومة واضحة في أذهان الحضور، لم يأخذ موقفاً دفاعياً، بل واقعياً، وهذا ما يفتقده الأردنيون عموماً، والخبر الجيّد أنّ الروابدة بصدد إصدر كتاب (خلال الأسابيع القادمة) عن تاريخ الأردن وهو ما قد يكون مفيداً جداً في ردم تلك الفجوات في القصة الوطنية.
بالطبع ليس الروابدة وحده هنالك آخرون ممن يجمعون بين الفلسفة السياسية والعمق والتحليلي والخبرة يمكنهم المساهمة في هذه الحكاية، وهنالك عمل مهم مطلوب في مجال التاريخ الشفوي لم يستكمل بعد، كُنت أتحدث مع وزير الخارجية الأسبق ورئيس الديوان الملكي السابق، والسياسي المخضرم مروان القاسم، عن التاريخ الأردني، وشرح لي بصورة تفصيلية ما وراء شعار الملك الحسين «الإنسان أغلى ما نملك»، متى ظهر؟ ولماذا؟ وكيف؟! والفلسفة التي تقف وراءه؟! وكنتُ مندهشاً من أهمية هذه المعلومات ولماذا لم تدخل في بناء «الوعي الوطني»!