د. اميرة يوسف مصطفى : الأردن استقلال يتجدّد من مئوية التأسيس إلى مئوية التحديث

لا يشبه الأردن في مسيرته أيّ مسيرة أخرى، فهو ليس مجرد دولة تحتفل بذكرى استقلال، بل وطن يحول التحديات إلى قصص نجاح تروى عبر الأجيال. فاستقلالنا لم يكن لحظة عابرة في الزمن وإنما تحول إلى «فلسفة وجود» نعيشها كل يوم، نصنعها بوعي ونورثها بفخر.
من مئوية التأسيس التي رسخت دعائم الدولة، إلى مئوية التحديث التي تعيد هندسة الإدارة والتعليم والاقتصاد والهوية، يمضي الأردن بثقة في مسار استثنائي، إذ لم يكن يوما دولة محايدة في الجغرافيا ولا في الوجدان العربي؛ وإنما كان نقطة ارتكاز وقيمة مضافة وصوتا متزنا في زمن التشظي، ومع أنه محاط ببؤر الصراع فقد نجح في البقاء، وأبدع في تحويل التحديات إلى مصادر للقوة والبناء، ومنذ لحظة التأسيس اختار استراتيجية العقل في مواجهة إغراءات القوة، وبنى نهضته على ثلاثية متفردة:
التعليم كسلاح استراتيجي جعل من المدارس والجامعات حصونا للفكر لا مجرد أبنية،
والانفتاح كخيار وجودي احتضن المهاجرين واللاجئين دون أن يفقد هويته،
والتوازن كفن سياسي أتقن من خلاله لغة الحوار مع العالم بكل تناقضاته.
وفي قلب هذه المعادلة كانت القيادة الهاشمية مدرسة متفردة في إدارة المستحيل، فالملك المؤسس لم يبنِ دولة فقط وإنما صاغ فكرة الأردن كواحة للاستقرار وسط صحراء الاضطرابات. أما الملك طلال رغم قصر فترة حكمه فقد منحنا دستورا لم يكن مجرد نصوص قانونية، بل عقدا اجتماعيا يربط بين الأرض والإنسان. وجاء الملك الحسين ليحول ضعف الموارد إلى قوة تأثير، فكان الأردن في عهده أكبر من مساحته وأغنى من موارده. ثم واصل الملك عبد الله الثاني المسيرة وجعل من التحديات سلما للنهضة فدخل الأردن عصر الرقمنة والذكاء الاصطناعي، ووضعه على خريطة العالم السياسية والاقتصادية.
واليوم ونحن على أعتاب المئوية الثانية يبدو المشهد واعدا مع ولي العهد سمو الأمير الحسين بن عبد الله الثاني، الذي يمثل الجسر الحيوي بين الماضي والمستقبل بمبادراته الشبابية والمجتمعية، فيجسد الأمير رؤية القيادة الهاشمية في صناعة جيل وطني مسؤول، متسلح بالقيم والانتماء والمعرفة، ومقبل على استحقاقات المستقبل بلغة الأتمتة والابتكار.
جيل اليوم الذي يمتلك لغته الخاصة إذ يبرمج الاستقلال بلغة البايثون بدلا من الخطب المنبرية، ويحول الحدود الجغرافية إلى فضاءات رقمية بلا حواجز، ويصنع من التحديات منصات إبداع تنطلق منها شركات ناشئة تحاكي العالمية.
ففي عام 2025 لم يعد الاستقلال مجرد لحظة في التقويم، بل تحول إلى معادلة متجددة لمعنى الانتماء والنهضة، واليوم لا يكفي أن نحتفل بتحرير الأرض فقد بات المطلوب أن نحرر العقول من التبعية، والإرادة من ثقافة الاستهلاك، والطاقات من قيود الجمود الإداري والفكري. فالأردن الذي بدأ رحلته قبل مئة عام بـجيش من الحالمين يكملها اليوم بـجيش من المبرمجين وكتائب من المخترعين؛ لا يحملون البنادق وإنما أدوات المعرفة، ولا يرفعون الشعارات بل يطورون الحلول.
هكذا نحتفل بالاستقلال لا كمجرد ذكرى بل كنهج حياة كـ DNA نبرمج به مستقبلنا، وككود نعيد به كتابة قصة وطن. فاستقلالنا ليس يوما في التقويم وإنما وعد يومي أن نبقى هنا وأن نبقي الأردن كما كان دوما وطنا أكبر من التحديات، وأقوى من الظروف وأصدق في الإنجاز.