أ. د. احمد منصور الخصاونة : من نيسان التأسيس إلى أيار الاستقلال: مسيرة دولة ونبض شعب

بكل فخرٍ وإيمان، نستحضر في عيد الاستقلال ومئوية الدولة الأردنية سؤالًا تأمليًا عميقًا، لا من باب الترف الفكري، بل من باب إدراك النعمة وتقدير اللحظة التاريخية: ماذا لو لم يأتِ الهاشميون إلى شرق الأردن؟ كيف كان سيكون حالنا لولا تلك اللحظة الفارقة في نيسان 1921 التي مهّدت لبزوغ فجر الاستقلال في أيار 1946؟
لقد كنا آنذاك على مفترق تاريخي وسط فراغ سياسي قاتم بعد زوال الحكم العثماني، وتشتت عشائري، وتنازعٍ على هوية الحكم، وساحةٍ مرشّحة لأن تكون مطمعًا لكل طامع، ومنفىً لكل خاسر. لكن القدر شاء أن يكون لهذه الأرض نصيبٌ من المجد، فجاء الهاشميون لا غزاة ولا طامعين، بل حملةُ مشروعٍ عربي نهضوي، رؤيته الإنسان، وهدفه الدولة، ورايته الثورة العربية الكبرى.
جاء الأمير عبد الله بن الحسين يحمل أمل الأمة، ويوحد الحلم المبعثر في قلب البادية، ليؤسس نواة دولة لا تزال حتى اليوم، بعد أكثر من قرن، تقف بشموخ وسط أمواج الإقليم المتلاطمة. لقد وُلدت الدولة الأردنية من رحم الفوضى، فكانت النشأة معجزة في زمن التفتت، وكان البناء تحديًا في وجه العدم. لم تكن الطريق مفروشةً بالورود، بل مليئة بالصعوبات والعثرات، لكنها كانت طريق الكرامة والسيادة.
هذا الشعب، بقيادته الهاشمية، آمن بوطنه وتشبّث بهويته وصمد رغم شُحّ الإمكانات، وصنع من ركام الحرمان منجزًا لا يُنكر. لولا المشروع الهاشمي، لربما كنا اليوم بقايا هويات متناحرة، وساحاتٍ مرتهنةٍ للغير، بلا استقلال، ولا مؤسسات، ولا هوية جامعة.
لكن، الاستقلال ليس لحظةً ماضية تُروى، ولا مناسبة تُرفع فيها الأعلام وتُزيَّن فيها الجدران، بل هو التزامٌ أخلاقي وسياسيٌ دائم. الاستقلال الحقيقي يعيش في الضمير، ويُترجم إلى سلوك يومي، وإخلاص في كل موقع. أعظم صور الاحتفال بالاستقلال أن نكون أبناءً أوفياء لهذا الوطن، نحارب الفساد، نرفض المحسوبية، ونعلي شأن الكفاءة والنزاهة، ونجعل من العمل عبادة، ومن الإتقان سلوكًا، ومن المصلحة العامة راية لا تنزل أبدًا.
المعلّم يحتفل بالاستقلال حين يزرع في عقول طلابه وقلوبهم حبّ الوطن وقيم الانتماء. والطبيب حين يُقدّم عنايته بإخلاص، ويجعل من إنقاذ الأرواح رسالة شرف لا مهنة فحسب. والمهندس حين يشيّد بإتقان، ويجعل من كل لبنةٍ في وطنه حجرًا في صرح الكرامة. والممرضة حين تسهر على صحة الناس بروحٍ إنسانية وضمير حيّ. والمزارع حين يحرث أرضه بحب، ويزرع تراب الوطن كما لو أنه يغرس فيه حلمًا. والعامل حين يُنجز عمله بأمانة، ويعلم أن كل قطرة عرقٍ تروي تراب هذا البلد الطاهر. والجندي حين يضع روحه على كفه، ويحرس حدود الوطن بعين لا تنام. والموظف حين يجعل من ضميره رقيبًا، والسائق حين يرى في التزامه بالنظام احترامًا للحياة. وربة الأسرة حين تغرس في أبنائها القيم والمبادئ والانضباط، والطالب حين يجعل من طلب العلم جهادًا، ومن طموحه خريطة لمستقبل الوطن.
كلنا شركاء في المعركة، وكلنا جنود في معركة البناء، مهما اختلفت مواقعنا وتنوعت مسؤولياتنا. فلنتذكّر دومًا أن دولتنا لم تُهدَ إلينا على طبقٍ من ذهب، بل صُنعت بالدم والتضحيات والعزم. ولأجلها، علينا أن نُخلص، ونصون، ونكافح كل فاسد، لأن البناء لا يكتمل إلا بوعي أبناء الوطن، ونقاء سريرتهم، وقوة إرادتهم.
فليكن استقلالنا متجددًا في كل يوم، يُكتب لا بالحبر، بل بالفعل، ويُحتفل به لا بالشعارات، بل بالإنجازات. وليكن وفاؤنا كما أراده الآباء المؤسسون: صلبًا كالصخر، عميقًا كجذور التاريخ، ومضيئًا كرايةٍ لم تنكس يومًا... ولن تنكس أبدًا.