الأخبار

جمال القيسي : حين تصمت الدولة يعلو صوت الفراغ

جمال القيسي : حين تصمت الدولة يعلو صوت الفراغ
أخبارنا :  

في المشهد الإعلامي الأردني اليوم، تتعاظم الحاجة إلى مراجعة جذرية لطريقة تعاطي الدولة مع الفضاء الرقمي ومنصات التعبير. فالعالم يتغير بسرعة، والصراع لم يعد على الجغرافيا فقط؛ بل على المعنى، وعلى من يملك القدرة على رواية القصة أولًا وبذكاء. في هذا السياق، لا يكفي أن تكون الدولة محقة في سياساتها، بل يجب أن تكون حاضرة في خطابها، واثقة في رسالتها، وقادرة على الوصول إلى مواطنيها وإقناع الرأي العام الإقليمي والدولي بلغة هادئة ومؤثرة.

لكن، ماذا لو غابت الدولة عن هذا الميدان؟ من يملأ الفراغ؟ ومن يصوغ روايتها؟.

إن التراخي والارتجال في إدارة إعلام الدولة قد يتحول إلى مأزق سياسي، فإننا نستذكر هنا حادثة مفصلية: ففي عام 2004، ألقى المهندس علي حتر محاضرة في مجمع النقابات المهنية بعنوان "لماذا نقاطع أمريكا". ما لبث أن تم توقيفه على خلفية تصريحاته، وسُجّلت بحقه دعوى جزائية، وفي يناير 2005، سأل الرئيس الأمريكي جورج بوش جلالة الملك عبد الله الثاني خلال مؤتمر صحافي في البيت الأبيض عن قضية توقيف حتر، في إشارة واضحة إلى أن إجراءات التضييق على الإعلام لا تبقى محلية، بل هي قابلة دائما للتحول إلى عبء دبلوماسي.

في قرار حجب عدد من المواقع الإلكترونية الأردنية مؤخرًا، لم نخسر فقط معركة إعلامية، بل كشفنا عن ارتباك في علاقتنا مع الحريات، وخلل أعمق في قدرتنا على إدارة الصورة الإعلامية العامة للأردن. والمشكلة لا تقف عند هذا القرار، بل تمتد إلى غياب المنهجية الاتصالية الوطنية الواضحة التي تعرف متى تتحدث، ومتى تصمت، ومتى تشرح.

وهذا ما يجعلنا عرضة للاجتهادات غير المتخصصة والارتجال العاطفي المشحون.

ما يجعل المشهد أكثر تعقيدًا أن الرواية السياسية الأردنية ليست هشّة، بل تتمتع بالتماسك والرصانة في المضمون، ولها ما تسنده من مشروعية دستورية وسياسية وتاريخية.

لكنّ هذا العمق لا يجد طريقه إلى المنصات الإعلامية الرسمية، التي غالبًا ما تكتفي بردود فعل متشنجة، أو تغيب تمامًا حين تشتد الحاجة إلى صوتها. في هذه المساحة الفارغة، تتسلل روايات بديلة، مغرضة وعدائية ومجتزأة، لكنها تجد من يصغي إليها، لأنها فراغ حل مكان صمت الدولة.

الحزب الديمقراطي الاجتماعي الأردني قالها بوضوح في بيانه الأخير، المنشور على موقع عمون الأربعاء: إن قرار الحجب لا يدحض الأخبار الكاذبة، بل يزيد من مساحات الغموض ويعمق أزمة الثقة بين الدولة والمواطن. هذا النوع من القرارات يعطي إشارات سلبية إلى الداخل والخارج معًا، ويغذّي الانطباع أن الدولة تخشى النقد أو لا حجة لديها للرد.

المؤشرات العالمية في هذا السياق تتحدث بوضوح: تقرير "مراسلون بلا حدود" لعام 2024 وضع الأردن في المرتبة 122 من أصل 180 دولة في مؤشر حرية الصحافة. أما Freedom House فصنّف الإنترنت لدينا بأنه "جزئي الحرية". هذه المؤشرات لا تُقرأ في معزل عن السياق الاقتصادي والسياسي؛ المستثمر الدولي اليوم لا ينظر فقط إلى معدل النمو أو الضرائب، بل إلى البيئة السياسية: هل تسمح بحرية التعبير؟ هل تُدار الأزمات بالمكاشفة أم بالحجب؟.

لقد باتت حرية الإعلام جزءًا من سمعة الدولة (Country Brand)، وعنصرًا مؤثرًا في ثقة الأسواق، وفي تصنيف مؤسسات التصنيف الائتماني. وإذا كان الأردن حريصًا على جذب الاستثمارات، فإن عليه أن يدرك أن الحريات العامة لم تعد ترفًا، بل ضمانة للاستقرار.

اليوم يتجاوز الإعلام وظيفته التقليدية، فلم يعد مجرد مرآة تعكس المواقف، بل منصة لتسويق الرؤية الوطنية للدولة. وليس من وظائف الإعلام أن يعكس ما تقوله الدولة فقط، بل أن يُحسن صياغته وتسويقه في "سوق الأفكار" العالمية. الإعلام المحترف لا يكتفي بالبث الرسمي، بل يبني محتوىً ذكيًا، ومتفاعلًا، وقادرًا على تحويل الثوابت الوطنية إلى خطاب مقنع ومؤثر ودائم. ومن هنا، فإن الإعلام ركيزة أساسية وليس ترفا أو ملحقا بسياسة الدولة، بل صار في قلبها، يروّج لهويتها، ويصوغ صورتها في الخارج، ويعيد تشكيل الثقة الداخلية. وإن غياب هذا الدور، أو اختزاله، هو ما يفتح الباب للفراغ السردي، الذي تملؤه الجهات المضادة أو الأصوات المتربصة.

وإذا كان هناك من يخشى الانفتاح الإعلامي، بحجة الحفاظ على الأمن أو الاستقرار، فإن التجارب الدولية تثبت العكس. في العام 1975، بعد نهاية عهد الجنرال فرانكو، لم تلجأ إسبانيا إلى قمع الإعلام لضبط المرحلة الانتقالية، بل على العكس: تأسست صحيفة El País كمنبر للحرية والتعددية، وساهمت في ترسيخ الديمقراطية، وأصبحت اليوم من كبريات الصحف الأوروبية التي تُمثّل صوتًا وطنيًا وحقوقيًا في آن. وفي أوروبا الشرقية، بعد سقوط جدار برلين، كانت الحريات الإعلامية أحد أعمدة إعادة بناء الثقة بالدولة.

حين تغيب الدولة عن الفضاء الإعلامي، لا يبقى الحيز فارغًا، بل تمتلئ ساحاته بأصوات أخرى، تحمل أجندات أخرى، وقدرة على التأثير. لذلك، فإن التحدي ليس في إسكات هذه الأصوات، بل في أن تكون روايتنا كدولة محكمة وعميقة، وأقدر على الإقناع، وهذا لا يتحقق بالحجب، بل بالحضور وتفكيك الخطاب المضاد.




مواضيع قد تهمك