الأخبار

د. خالد الشقران يكتب : مأسسة العمل الحزبي

د. خالد الشقران يكتب : مأسسة العمل الحزبي
أخبارنا :  

في ظل التحولات السياسية والاجتماعية التي تشهدها العديد من المجتمعات، تبرز أهمية مأسسة العمل الحزبي كمدخل أساسي لللوصول للمجتمع وتعزيز المشاركة الشعبية وبناء الثقة بين الأحزاب والجمهور، فالأحزاب السياسية في جوهرها ليست أدوات للتنافس الانتخابي والوصول إلى السلطة أو المشاركة فيها، بل هي قنوات لتمثيل الآراء وصياغة السياسات؛ مما يجعل مؤسسيتها شرطاً لا غنى عنه لضمان استقرار العملية الديمقراطية وتجذيرها في الواقع وفي حياة المجتمع.

تتمثل مأسسة العمل الحزبي في إرساء هياكل تنظيمية واضحة، وأنظمة داخلية ديمقراطية، وآليات شفافة لإدارة التفاعلات الحزبية على المستويات الحكومية والشعبية وكذلك على المستوى الداخلي للحزب وفي عمليات اتخاذ القرار، هذه المؤسسية تحول الأحزاب من كيانات هشة مرتبطة بأشخاص أو مصالح ضيقة، إلى مؤسسات تعمل وفق آليات منظمة وأسس فكرية وسياسية قادرة على تجميع التوجهات المجتمعية المتباينة تحت مظلة برامجية موحدة، فعندما تتحول الأحزاب إلى مؤسسات تتسم بالديمومة ذات خطط عمل واضحة وطويلة المدى، فإنها تكتسب القدرة على اجتذاب فئات أوسع من المواطنين، خاصة الشباب والنساء الذين غالباً ما يبتعدون عن الانخراط في هياكل غير واضحة المعالم وغير قادرة على تقديم برامج مقنعة للجماهير أو عرضة للانهيار.

كما تلعب المؤسسية دوراً محورياً في تعزيز قناعة المجتمع بأهمية الانضمام إلى الأحزاب، فالشعوب خاصة في المجتمعات التي تعاني من تاريخ طويل مع الأحزاب الشعبوية أو الزبائنية، تميل إلى التشكيك في قيمة العمل الحزبي ما لم ترَ نماذج ملموسة لأحزاب ناجحة وفاعلة تحترم قواعد اللعبة الديمقراطية وتقدم إنجازات ملموسة للدولة والمجتمع، فوجود أحزاب مؤسساتية يُظهر للمواطن أن الانضمام إليها ليس مجرد مشاركة رمزية، بل مساهمة في بناء تيار سياسي قادر على التأثير الفعلي، من خلال منافسة نزيهة وطرح بدائل سياسية قابلة للتطبيق بممارسة الأدوار المنوطة بها سياسيا واقتصاديا واجتماعيا وثقافيا بشكل مقنع، وقادرة على إحداث فرق في الحياة السياسية بشكل عام وفي حياة الناس بشكل خاص، ومحفز للمجتمع للمبادرة إلى الانخراط بالعمل الحزبي.

إن فوائد المؤسسية لا تقتصر على توسيع القاعدة الشعبية والمشاركة السياسية، وإنما تمتد إلى تعميق الثقافة السياسية، فالأحزاب المنظمة تتحول إلى مدارس لتدريب الكوادر، ونقل المعرفة السياسية، وغرس قيم الحوكمة والرقابة والمساءلة والمشاركة والتعددية، وهذا بدوره يخلق حلقة إيجابية؛ فكلما زادت ثقة المجتمع في الأحزاب، ازداد إقبال الأفراد على الانضمام إليها، مما يعزز شرعيتها وقدرتها على تمثيل شرائح مجتمعية أوسع.

يتطلب تحقيق هذه الرؤية بيئة داعمة سياسيا وتشريعيا، وفي التجربة الأردنية، قطعت المملكة شوطا كبيرا في مجال تهيئة البيئة المناسبة سياسيا وتشريعيا ومؤسساتيا لنجاح مشروع التحديث السياسي، خاصة أن التشريعات والقوانين الناظمة للعمل الحزبي تضمن بشكل كبير دعم الأحزاب، واستقلاليتها، وتمويلها الشفاف، وحمايتها من الاستقطاب الإثني والعرقي، وهو ما يشكل أساسا متينا لبنائها وعملها وفقا للأطر المؤسسية التي تضمن استدامتها وتطورها وتوسيع قاعدة المشاركة الجماهيرية فيها، في المقابل يحتاج المجتمع إلى التحرر من الصور النمطية السلبية أو الخوف والتردد في خوض تجربة العمل الحزبي، عبر تعزيز ثقافة الحوار وقبول الاختلاف.

باختصار، مأسسة الأحزاب ليست ترفا فكريا، وإنما ضرورة استراتيجية لزيادة فعاليتها وتأثيرها وانتشارها جماهيريا، وتحويل السياسة من صراع نخبوي إلى ممارسة يومية يساهم فيها الجميع، فالديمقراطية الناضجة لا تبنى إلا بأحزاب قوية، قادرة على الوصول لكل فئات وشرائح المجتمع في مناطقهم وأماكن سكناهم إضافة إلى الاهتمام بأولوياتهم والتحديات المرتبطة بأدق تفاصيل معاشهم وحياتهم اليومية وكذلك طبيعة وجودة الخدمات المقدمة لهم، وعكس كل ذلك في البرامج الحزبية مع الانتباه إلى ضرورة تحويل الشعارات إلى واقع، والجمهور من متفرج إلى شريك فاعل يؤمن بالعمل الحزبي وأهميته في تحسين الواقع السياسي والاقتصادي والاجتماعي والثقافي المعاش ــ الراي

مواضيع قد تهمك