اسماعيل الشريف يكتب : ثرثرات

«تكلَّم حتى أراك»، سقراط.
تكشف الأبحاث التي أُجريت في فترة ما قبل طوفان الأقصى أن المحادثات اليومية بين المواطنين الأردنيين كانت تدور بشكل أساسي حول الهموم الاقتصادية المُلحّة؛ حيث شغلت قضايا تصاعُد الأسعار وتفاقُم البطالة حيزًا كبيرًا من اهتماماتهم، بالإضافة إلى انشغالهم بمناقشة الشائعات المنتشرة عبر منصات التواصل الاجتماعي المختلفة.
وقد أبرزت دراسة علمية رصينة أجرتها جامعة الشرق الأوسط بالتعاون مع نخبة من الإعلاميين والصحفيين نتائج لافتة؛ حيث أشار ما يقارب 87.9% من المستطلعة آراؤهم إلى أن الشائعات ذات الطابع الاجتماعي تحتل المرتبة الأولى من حيث الانتشار، تليها في المرتبة الثانية الشائعات المتعلقة بالشأن الاقتصادي بنسبة وصلت إلى 75.8%. وفي السياق ذاته، كشفت دراسة أخرى أجراها معهد CTE أن الطلبة يميلون في أحاديثهم اليومية إلى التركيز على موضوعات الطعام وفرص العمل والتحديات الدراسية.
غير أن المشهد تَبدَّل جذريًّا بعد أحداث طوفان الأقصى؛ حيث شهدت اهتمامات الأردنيين تحولًا دراماتيكيًّا، وأضحت المجازر المروعة التي تشهدها غزة تستحوذ على صدارة محادثاتهم ونقاشاتهم. أصبحوا يتحدثون بمشاعر متدفِّقة من الغضب والألم والقهر، ويتبادلون بحماس التحليلات السياسية المختلفة، ويلجؤون إلى السُّخرية المريرة من واقع العالم العربي المؤلم، ويرفعون أكُف الضَّرَاعةِ بالدعاء، ويُعبِّرون عن حسرتهم العميقة، ويخوضون في سِجالات سياسية متواصلة لا تكاد تنتهي.
ولكن في خِضَم كل هذا، يبرز سؤالٌ مُلِح وعميق: ما الموضوعات التي تشغل أحاديث إخواننا في غزة المنكوبة؟ دعوني أُطلِعكم على محادثات واقعية جرت هناك... في زوايا الظلام الحالِك، وتحت وابِل القصف المستمِر، وبين أطلال ما تَبَقّى من حياة محطمة.
(1)
تحمِلُنا الحافِلة نحو مقاصِد عملنا، ونحن تلك الفِئة القليلة المنعَم عليها بفرصة مواصلة الحياة المهنية. نتنقل بين أطلال المباني التي طالتها يد الدمار، حين تستدير رفيقتي نحوي متسائِلة بنَبرة تتخللها الحيرة: «أتغامرين بالخروج من منزلك مع تَصَاعُد العدوان واشتداد وطأته؟».
أجيبها بحزم ويقين لا يتزعزع: «لن أغادر مهما بلغت التضحيات وتعاظمت المخاطر».
ثم تلتفت إلى بقية الزميلات بحركة مفاجئة، وتطلق صرخة مدوية تمتزج فيها أصداء التوتر بشحنات الغضب المكبوت: «هل ستتخلى إحداكن عن منزلها وتختار الرحيل؟».
تتصاعد الأصوات متداخلة، قبل أن تجهر إحداهن بما يختلج في الصدور: «لقد تجرعنا كل ألوان المذَلَّة وصُنوف الإهانة... لم يتبَقَ لنا في هذه الحياة سوى انتظار الموت الذي بات أهون علينا من الاستسلام!».
(2)
هل بلغكم نبأ الفتاة التي ارتقت شهيدة بالأمس، وهي جالسة في ركن المقهى تستمتع بتناول شريحة بيتزا طازجة؟ كل من كان في المكان رمقها بنظرات تفيض بالحسرة والاشتهاء، وانسابت لعابهم حنينًا للمذاق المفقود. يروي النادل، الذي نجا بأعجوبة من تلك المجزرة المروعة: «عاتبَتْها صديقتها بلهجة مستنكِرة: أفقَدتِ عقلك؟ إنها باهظة التكلفة بشكل لا يُحتَمَل، تبذلين ثروة كاملة مقابل هذه القطعة!» ابتسمت الفتاة ابتسامة رضا وأجابت بعفوية صادقة: «لن أقبل أن أموت وأنا جائعة».
لم تكد تختتم عبارتها... حتى اخترق الصاروخ سقف المقهى في لحظة مُباغِتة. يستطرِد النادِل بصوت مُتحَشرِج: «عندما دوى صوت الانفجار الهائل وتلاشت سُحب الغُبار المتصاعدة وتعالت صرخات الألم المفجعة، أدركت أنني لا زلت على قيد الحياة بمعجزة إلهية. حولت نظري بصعوبة نحو الطاولة التي كانت تشغلها... كانت الفتاة قد تحولت إلى أشلاء متناثرة، وصديقتها غارقة في بركة من دمائها النازفة».
خامرتني فكرة واحدة فقط اجتاحت كياني: كم أتمنى من أعماق قلبي أن تكون قد تذوقت لقمتها الأخيرة من البيتزا قبل أن تُزهق روحها الطاهرة.
تنهد أحدهم بصوت يجسد اليأس والاستسلام قائلًا: «في الحقيقة، كانت محظوظة بطريقة ما... تحررت نهائيًّا من سلسلة المعاناة المتواصلة - لا جوع بعد اليوم، لا فرار مستمر، لا نزوح قسري، لا ركض متواصل هربًا من الموت».
أطرقنا جميعًا برؤوسنا في آنٍ واحد، وخَيّم علينا صمتٌ ثقيل وكثيف... صمتٌ يكاد يخنق الأنفاس ويحبس الأرواح.
(3)
انزوى رجلان على أنقاض ما تبقى من بيتهما المنهار، يتبادلان الحديث بهمسات خافتة، كأنما يخشيان أن تتسرب كلماتهما إلى الفضاء المُشَبَّع برائحة الموت والفناء.
همس الأول بنبرة استسلام تشي بإدراكه لفداحة المشهد: «أحسب أننا نشهد الفصول الأخيرة من هذه الحرب الضَّروس... إذا واصلوا هذا النهج المحموم من القصف المتواصل، فإن الفناء سيطوي صفحاتنا جميعًا في القريب العاجل، وسيُسدل الستار على هذا الكابوس المَرِير».
أجابه الآخر، بصوت تختلج فيه مرارة القهر العميق: «ولماذا لا يُقدِمون على إلقاء قنبلة نووية واحدة تنهي كل شيء في لحظة خاطفة؟ ما الذي يدفعهم لإطالة أمد عذاباتنا المتواصلة؟ لماذا يفرضون علينا الجوع القاتل، ويُحكِمون حولنا طوق الحصار، ويَسلبوننا كل مقوِّمات الحياة... ثم يتعقبوننا بآلة القتل المنهجي؟ أليست قنبلة واحدة كفيلة بطي صفحة هذه المأساة بأكملها؟!».
هز الأول كتفيه بحركة توحي باستنفاد كل طاقات المقاومة، وقال بنبرة يغلفها الوهن والفتور: «إنهم يتوجسون من امتداد الإشعاع النووي إليهم... لا يريدون لتلك الموجات القاتلة أن تطال أراضيهم».
تنهد الثاني بسخرية مريرة تنضح بمرارة تجاوزت حدود الاحتمال: «كلا... الحقيقة أبشع من ذلك بكثير... إنهم يستَمِدُّون متعة سادية من مشاهدتنا ونحن نتلظى ببطء على نار خافتة لا تنطفئ».
في عصر تتفشى فيه مزايدات السياسيين الجوفاء، وتتكشف فيه أكاذيب الإعلام المضللة، وتطفو على سطحه تحليلات سطحية عقيمة... تبقى الحقيقة الناصعة متجلية في أحاديث الناس البسطاء وثرثراتهم العفوية.
ــ الدستور