الأخبار

رمزي الغزوي : دم نقي يسري في عروق الكوكب

رمزي الغزوي : دم نقي يسري في عروق الكوكب
أخبارنا :  

صحيح أنني ابن الماء البارد، آخذه من كأس شفافة تتعرق فوقها دموع الندى، لكنني تجرّعت الماء الساخن في زيارتي الأولى إلى الصين على مضض، لا إيمانا بأسطورة الإمبراطور «شين نونج» الذي قيل إنه اكتشف الشاي صدفة، ولا اقتناعا بنصيحة صديقي في جامعة بكين للمعلمين، حين قال بثقة إن الماء الساخن صحة وعافية، وإنه يسهل الهضم، بل احتراما لطقس قديم شعرت أنه أعمق من أي تفسير عابر.
فذاك الإمبراطور، الذي أمر بعدم شرب الماء إلا بعد غليه، كان في استراحة تحت شجرة، حين حطت ورقة، كفراشة مسترخية، على سطح كوبه. فتلون الماء بلون مائل إلى الحمرة، وانبعث منه عطر غامض، ومذاق غيّر كل شيء.
من يومها، صار يرمي الأوراق في الماء عمدا، ومن هناك بدأ الحنين وبدأ الشاي.
ولأن شرِّيب الشاي لا يصادقه النوم إن تأخر في احتسائه، فقد لامستني أكثر تلك الأسطورة الهندية التي تروي حكاية راهب بوذي صعد إلى الجبل طلبا للخلاص، ساعيا إلى «النيرفانا» أي الخلاص والانعتاق من كل شيء دنيوي، غير أن النوم غافله، فاستيقظ غاضبا، ومزق جفنيه، ورماهما. وفي الأرض التي استقر فيها الجفنان، نبتت شجرة أوراقها رمحية تشبه أجفانا مطبقة على أحلام لم تكتمل. شجرة الشاي.
أمس، احتفلت مع أصدقاء بالشاي في يومه العالمي. يوم أقرته الأمم المتحدة قبل تسع سنوات، بعد اقتراح من الهند، اعترافا بما تحمله هذه النبتة من تاريخ وعناء. فالشاي لا يقطف بسهولة، ولا يخمّر عبثا، ولا يحتسى بلا روح.
وقد اختير هذا اليوم لأن شهر أيار موسم حصاده في بلاد كثيرة.
ربما أرادت الهند، حين رفعت الشاي إلى مقام الرمز، أن تخلد اسم المزارع «مانيرام ديوان»، الذي أعدمته بريطانيا عام 1857، لمشاركته في تمرد لم يطالب إلا بالمزيد من الشاي.
فرغم هدوء الشاي وسكونه، إلا أنه كان في صلب ثورات عدة. ففي أمريكا، حين رفضت المستعمرات قوانين بريطانيا، ألغى المحتل ضرائبه عن كل شيء... عدا الشاي؛ فاشتعلت شرارة الاستقلال من فنجان.
في طفولتنا، كانت الجدة تخمد ثوراتنا الصغيرة بسحر شفيف. تنادي علينا إلى صحن كبير، فيه فتة خبز تغمره بشاي يغلي، يعلوه سمن بلدي وسكر، فنلتف حوله كقطط جائعة، ننهل منه طاقة لا تخوننا حتى الغروب. كم يفرحني أن خصص العالم يوما لمن عدل مزاجه، لمن روض الوحش الكامن في زوايا النفس، ووشى الجنون ببعض حكمة.
الشاي، يا صديقي، ليس مشروبا. هو طقس سلام. دم نقي يسري في عروق هذا العالم المرهق، فيمنحه هدنة من ضجيج الحروب، وصفاء في خضم الكروب. ــ الدستور

مواضيع قد تهمك