الأخبار

د. امجد ابو جري آل خطاب يكتب: الهوية الوطنية والأمن المجتمعي

د. امجد ابو جري آل خطاب يكتب: الهوية الوطنية والأمن المجتمعي
أخبارنا :  

أضحى الحديث عن الهوية الوطنية الأردنية حاضراً بكثافة في المشهد العام، ليس فقط في الأوساط السياسية بل أيضاً في جلسات الناس اليومية وعلى منصات التواصل الاجتماعي. وهذا التكرار في الطرح لا يأتي من فراغ، بل يعكس اضطراباً في العلاقة بين المواطن والحكومة وقلقاً متنامياً من تآكل ما يفترض أن يكون رابطاً جامعاً لكل الأردنيين بغض النظر عن أصولهم أو مناطقهم أو خلفياتهم الاجتماعية.

تطرقت في مقال سابق إلى العلاقة بين التعيينات الجائرة والأمن المجتمعي، وبينت كيف أن هذا النمط من السياسات خلق حالة من اللامساواة الفعلية والشعورية ادت إلى تصدع الثقة بين المواطن ومؤسسات الحكومة. ومع تكرار التجربة، بدأ الكثيرون يبحثون عن بدائل للهوية الوطنية، بدائل توفر الأمان أو تسهل الوصول إلى الفرص ولو كانت مبنية على العصبية المناطقية أو العشائرية. هذه الهويات البديلة ليست بالضرورة سلبية بالمطلق، لكنها تتحول إلى أدوات انقسام حين تضعف مؤسسات الحكومة أو تفقد قدرتها على تمثيل الجميع بعدالة.

هنا تبرز مسألة في غاية الأهمية: العدالة الشعورية، وهي ليست فقط عدالة الأرقام أو القوانين، بل الإحساس الداخلي بأنك متساوٍ مع غيرك، بأنك موجود ومعترف بك، وبأن لك مكاناً في هذا الوطن يعامل فيه الناس على قدم المساواة. غياب هذا الشعور يجعل الحديث عن الهوية الوطنية مجرد خطاب شكلي لا يمت لواقع المجتمع بصلة.

ولا يمكن فصل تراجع الهوية الوطنية عن ضعف الدور التربوي والإعلامي والثقافي ومؤسسات التنشئة في المجتمع. فالنظام التعليمي، حين يغفل عن ترسيخ الهوية الوطنية بمضامين عميقة تعكس تنوع المجتمع الأردني وتاريخه وتحولات الدولة الحديثة، سيخرج أجيال تفتقر إلى الشعور الحقيقي بالانتماء. والإعلام، عندما يكرس الصورة النمطية ويغذي الانتماءات الضيقة أو يتجاهل قضايا الناس الحقيقية، سيسهم بشكل مباشر في تشظي الوعي الجماعي. أما الثقافة السياسية، فحين تختزل الوطنية في الولاء لأشخاص مارسوا السلطة أو النفوذ على حساب المصلحة العامة، أو تدار الحكومة بعقلية التوازنات والمكاسب، فإنها تفرغ مفهوم المواطنة من مضمونه وتحوله إلى مجرد شعار يرفع عند الحاجة فقط.

كذلك فإن غياب مشروع وطني جامع يسهم في تعميق الشعور بالفراغ، فالهويات الوطنية لا تبنى فقط على الذكريات، بل أيضاً على الأمل والايمان بالمستقبل، وعندما لا يشعر المواطن أن له دوراً في صناعة الغد، أو أن صوته لا يسمع، فإن الانتماء يصبح هشاً ومعرضاً للانكفاء والتراجع، وهذا ما أكده وأشار إليه جلالة الملك حفظه الله في أوراقه النقاشيه.

إن الهوية الوطنية ليست منتجاً إدارياً أو قراراً سياسياً، بل هي نتاج عدالة عميقة، وتمثيل حقيقي، وتجربة معيشة يشعر فيها كل فرد أن له قيمة وكرامة وفرصة. وهي لا تزدهر في بيئة الإقصاء أو الزبائنية، بل تنمو في بيئة تحترم عقل المواطن، وتتعامل معه كشريك لا كمتلقي.

عندما يتحقق الأمن المجتمعي من خلال عدالة الفرص، وشفافية القرار، وسيادة القانون، تتجذر قيم المواطنة وتستعاد الهوية الوطنية الأردنية كإطار جامع لا يستثني أحداً، ولا يشعر أحداً بأنه زائد عن الحاجة.

وللحديث بقية

مواضيع قد تهمك