الأخبار

رمزي الغزوي : وقت تغدو عقولنا خشبة مسرح

رمزي الغزوي : وقت تغدو عقولنا خشبة مسرح
أخبارنا :  

نولد أحرارا، لكننا لا نعيش كذلك. فمنذ اللحظة الأولى، تهمس الأصوات من حولنا بما يجب أن نؤمن به، ونفكر فيه، ونخافه، ونقدسه. نعيش داخل قوالب صماء، ونحسبها حقيقية، ثم نظن بعد حين أن وعينا مكتمل، وأننا أصحاب رأي. لكن الحقيقة؟ إننا مجرد مؤدين في عرض هزلي طويل على خشبة مسرح بناه الأقدمون، وتوارثنا نصوصه دون أن نجرؤ على مراجعتها.
هذا ما سماه فرنسيس بيكون «صنم المسرح»، وهو أخطر الأصنام الأربعة التي شوهت العقل البشري عبر العصور. ليس لأنه الأكثر خداعا فقط، بل لأنه يتخفى في ثياب الحكمة والمعرفة. إنه السلطة الرمزية التي تخضعنا باسم الفلسفة، باسم التراث، باسم العلماء والأئمة والمشاهير. إنه الرأي الذي لا نجرؤ على مناقشته، لأنه صادر من أفواه مقدسة، حتى وإن خالف الواقع والعلم والعقل.
صنم المسرح لا يعمل في عزلة. بجانبه صنم آخر يرسخ الجهل الجماعي: «صنم السوق». ذلك الضجيج الفكري الذي ينتج حين تنتقل الأفكار في الأسواق والمقاهي ومجموعات الدردشة دون غربلة ولا تمحيص. نخلط بين الانطباعات والمعرفة، بين الشائعة والحقيقة، وبين العاطفة والبرهان. وفي زحام هذا السوق، تفقد المصطلحات دقتها، وتتحول اللغة نفسها إلى عبء على الفهم.
النتيجة؟ عقول تعمل كنسخ مكررة. لا تسأل، لا تشك، لا تفكك. نقرأ لنؤكد ما نؤمن به، لا لنفكر. نردد أقوال القدماء وكأنها قوانين فيزيائية، غير قابلة للمراجعة أو التطوير. نتحدث كثيرا عن الحرية، لكننا نخاف أول اختبار لها: حرية التفكير.
وسبق أن حذرنا وفرنسيس بيكون من تلك الأصنام كونها تحرمنا من أعظم ما نملكه كبشر: العقل النقدي. العقل الذي لا يرضى بالوراثة الفكرية، ولا يخاف أن يهدم صنما حتى يبني على أنقاضه فكرة جديدة. العقل الذي يزن، يفكك، يحلل، ثم يقرر.
قد تكون أصنام السوق والمسرح قديمة ومتجذرة، لكن عباءتها الحديثة باتت أشد خطرا. صارت تبث عبر الشاشات والهواتف، وتدرس في المناهج، وتسوق على أنها فضيلة. وبينما نتباهى بثقافتنا، تدار عقولنا كما يدار المسرح: بنص محفوظ، وممثلين لا يخرجون عن الدور.
فهل نملك شجاعة أن ننسل من هذا العرض؟ أن نكسر الجدار الرابع ونصرخ في وجه النص؟ أم أننا، ببساطة، لا نزال نفضل الجلوس بين المتفرجين؟ ــ الدستور

مواضيع قد تهمك