د. محمد العرب : العقبة معجزة أردنية تحرسها الشمس

حين هبطتُ في العقبة، لم أكن أهبط في مدينة عادية كنت أهبط في حلم استيقظ، وفي إرادة تُشبه المعجزات، دعيتُ لأُلقي محاضرة عن المستقبل والذكاء الاصطناعي، لكنني وجدت أنني أنا من يتعلّم من مدينة قرّرت أن تكتب مستقبلها لا بالحبر، بل بالشمس والرمال والدهشة.
العقبة لا تُشاهد تُعاش، جلست في أحد منتجعاتها الفاخرة، والبحر أمامي لم يكن مجرد ماء، كان مرآة تعكس صبر الأردن وعبقرية قيادته الهاشمية.
قبل عقود قليلة، هذه الأرض كانت حقل ألغام حرفياً
ألغام زرعها الخوف، وحصدتها يدٌ تعرف أن الحياة لا تستحق أن تُدفن تحت تراب مشوّه، يدٌ هاشمية قررت أن الأردن لا يليق به إلا الجمال، وأن البحر الأحمر لا ينبغي أن يُحيط بالرعب، بل بالفرح.
تخيلوا أنكم تقفون فوق رمالٍ كانت ذات يوم مسكونة بالموت وتُمارسون رياضة الغولف على ملاعب خضراء تُشبه الواحات، وتتناولون قهوتكم في مقهى ذكي يخبركم بدرجات الحرارة والتوقعات الاستثمارية في نفس الوقت.
هذا ليس مبالغة هذا واقع اسمه العقبة، مدينة مساحتها صغيرة، لكن قلبها بحجم قارة، كل زاوية فيها تروي حكاية، وكل نافذة تفتح على فصول من الإعجاز التنموي.
سألت صديقي حسان المبيضين الذي كان يرافقني : كيف تحولت هذه الأرض من منطقة عسكرية مُلغمة إلى جنة تُنافس ميامي؟ ابتسم وقال: الإرادة يا صديقي لا شيء يقف أمام إرادة هاشمية تعرف كيف تُدير الجغرافيا كما تُدير الأمل !
نعم، لقد نجحت القيادة الأردنية لا في نزع الألغام فحسب، بل في نزع فكرة المستحيل من رؤوس شعبها.
كانت العقبة يوماً ما نهاية الطريق والآن أصبحت بدايته.
أثناء المحاضرة، وأنا أشرح للضيوف كيف يمكن للذكاء الاصطناعي أن يعيد رسم العالم، كنت أنظر من النافذة وأدرك أن العقبة سبقتنا جميعاً، الذكاء الحقيقي هنا لم يكن صناعياً، بل وطنياً
ذكاء قاد دولة بموارد محدودة إلى أن تصبح عاصمة إقليمية للّوجستيات، وميناءً لوجستياً، ووجهةً سياحيةً عالمية.
ما رأيته هناك لم يكن منشآت فقط، بل روحًا تنبض.
حدائق، ملاعب، مسارح، أسواق حرّة، مشاريع سكنية ذكية، بنى تحتية تُنافس عواصم العالم، وناسٌ بابتسامات صافية تُشبه ضوء العقبة في الشتاء وضوء العقبة، لمن لم يره، يُشبه وعداً يتحقّق . ثم وقفت على أطراف البحر.
من هنا عبرت القوافل، ومن هنا دخل التاريخ، والآن، من هنا يدخل المستقبل. ما فعلته العقبة تحت الراية الهاشمية لا يمكن تلخيصه في تقرير إنشائي، بل يُكتب كملحمة.
إنها المدينة التي نزعت عن نفسها رداء الحرب ولبست ثوب الازدهار. مدينة لم تنتظر أن يأتيها أحد، بل قررت أن تذهب للعالم بنفسها، وتحاكي نيوم في طموحها، وتنافس شرم الشيخ في عطلاتها، وتُراهن على شبابها وموقعها وقدرتها على صوغ استثناء حقيقي.
اليوم، من يقف في العقبة لا يرى فقط الأبنية، بل يرى عقل الدولة الأردنية كيف يعمل ويفكر، يرى حكمة الملوك حين تلتقي بحلم الشعب، يرى أن الزعامة ليست شعاراً بل نتائج.
ويرى أن بلداً صغيراً مثل الأردن، حين يُحسن التوجّه، يمكنه أن يحوّل لغماً إلى زهرة، وموقعاً جغرافياً إلى جسر حضاري. أثناء المساء، حضرت فعالية ثقافية في إحدى سواحل المدينة، حيث تلتقي الموسيقى بالتاريخ.
رأيت السائحين من كل أنحاء العالم ورأيت الأردنيين وهم يتعاملون مع مدينتهم كأنها ابنة مدللة يجب أن تظل في أبهى حلّة.
وسمعت صوتاً داخلياً يقول لي: هذا البلد يعرف أين يضع قدميه.
لن أبالغ إن قلت إن العقبة مدينة تُدرّس فهي ليست فقط درساً في التطوير، بل في التحدي والكرامة والبناء النظيف، مدينة تقول للعالم: لسنا أغنياء موارد لكننا أغنياء عزيمة.
حين غادرت العقبة، كنت أحمل أكثر من انطباع كنت أحمل يقيناً
بأن من يستطيع تحويل أرض الغام إلى أرض أحلام، لا يُخشى عليه من المستقبل بل يُنتظر منه أن يصنعه.
هذه هي العقبة التي رأيتها. وهذا هو الأردن الذي نعرفه ينهض دوماً، ويُدهشك كل مرة، ثم يبتسم.