الأخبار

د. عدلي فندح : سوريا بعد العقوبات

د. عدلي فندح : سوريا بعد العقوبات
أخبارنا :  

كان الاقتصاد السوري قبل عام 2011 يُعدّ من أكثر الاقتصادات تنوعًا في المنطقة، حيث بلغ الناتج المحلي الإجمالي نحو 60 مليار دولار بأسعار القوة الشرائية، وتميز بتوازن نسبي بين القطاعات الزراعية والصناعية والخدمية، إضافة إلى وجود احتياطي نقدي مريح وقطاع عام مستقر نسبيًا. لكن مع اندلاع الأزمة، دخل الاقتصاد في حالة من التدهور الحاد، حيث فقد أكثر من 70% من حجمه الحقيقي، وانكمش الناتج المحلي إلى ما يُقدّر بنحو 18 مليار دولار فقط، مع انهيار الليرة السورية، وتدمير البنية التحتية، وهجرة رؤوس الأموال والكفاءات، وتوقف شبه تام لحركة الإنتاج والاستثمار. في ظل العقوبات الغربية والعربية التي فرضت عزلة شديدة على النظام المالي والتجاري السوري، بات الاقتصاد يعتمد على أنشطة غير رسمية، وتحويلات المغتربين، والدعم الخارجي من حلفائه السياسيين. ومع تصاعد الحديث عن إمكانية رفع أو تخفيف العقوبات في الفترة المقبلة، فإن التقديرات الأولية تشير إلى أن الاقتصاد السوري قد يتمكن من تحقيق نمو سنوي يتراوح بين 5% إلى 7% في حال توافر الاستقرار السياسي والتمويل الكافي، وقد يستعيد مستويات ما قبل الأزمة خلال عقد من الزمان، خاصة إذا ما تم دمجه مجددًا في المنظومة الاقتصادية الإقليمية والدولية.
تشكل العقوبات الاقتصادية المفروضة على سوريا منذ عام 2011 أحد أبرز المعوقات التي أثّرت سلبًا على الاقتصاد السوري، وأثّرت بتبعاتها المباشرة وغير المباشرة على الاقتصادات المجاورة، وخاصة الاقتصاد الأردني، إضافة إلى آثار إقليمية على مستوى العلاقات الاقتصادية العربية. ومع ازدياد الحديث عن إمكانية تخفيف هذه العقوبات أو إزالتها، فإن المشهد الاقتصادي في المنطقة قد يشهد تغيرات جوهرية، حيث إن رفع العقوبات عن سوريا سيكون بمثابة نقطة تحول، تفتح الباب أمام مجموعة من الفرص التي من شأنها أن تدفع باتجاه التعافي الاقتصادي، ليس فقط داخل سوريا، بل في المنطقة بأسرها.
من أبرز الانعكاسات المتوقعة لإزالة العقوبات على الاقتصاد السوري، استعادة النشاط في قطاعات الإنتاج المحلي التي كانت شبه معطلة خلال سنوات الأزمة، إذ إن عودة استيراد المواد الأولية، والمعدات اللازمة، وفتح قنوات الشحن، ستمكن المصانع والمزارع من استئناف عملها بكفاءة أعلى. كما سيساهم هذا الانفتاح الاقتصادي في تحسين بيئة الاستثمار، مما يدفع العديد من المستثمرين السوريين في الخارج إلى العودة وضخ أموالهم داخل البلاد، إلى جانب فتح المجال أمام تدفقات استثمارية من الدول العربية والأجنبية، خصوصًا في قطاع إعادة الإعمار الذي يتطلب تمويلًا ضخمًا وخبرات متقدمة. كذلك فإن تحرير التعاملات البنكية والمالية سيمنح الاقتصاد السوري فرصة للتنفس، من خلال تيسير استقبال التحويلات المالية من المغتربين، وتسهيل حركة الاستيراد والتصدير، مما قد يُسهم في دعم الميزان التجاري وتقوية سعر صرف الليرة السورية تدريجيًا، نتيجة زيادة الثقة وضخ النقد الأجنبي.
أما على صعيد الاقتصاد الأردني، فإن إزالة العقوبات عن سوريا تحمل أهمية استراتيجية كبيرة. فعودة العمل الكامل لمعبر نصيب – جابر تعني استئناف النشاط التجاري الحيوي بين البلدين، وهو ما سينعكس إيجابًا على الشركات الأردنية التي تعتمد على السوق السوري لتصدير بضائعها، أو استيراد بعض المنتجات. كما أن تحسن الأوضاع داخل سوريا، وعودة الاستقرار التدريجي، سيعيد تفعيل دور الأردن كممر إقليمي للنقل واللوجستيات، خاصة فيما يتعلق بمرور البضائع بين الخليج وأوروبا عبر الأراضي السورية. هذا الواقع سيعزز من موقع الأردن الاستراتيجي، ويعيد النشاط إلى قطاع الشحن والنقل البري، الذي تضرر بشكل كبير بسبب إغلاق الطرق البرية خلال الأزمة السورية. كما ستتاح أمام الشركات الأردنية فرص واعدة للمساهمة في مشاريع إعادة إعمار سوريا، سواء من خلال الدخول المباشر أو عبر شراكات مع شركات سورية وعربية.
ولا تقف الآثار الاقتصادية لإزالة العقوبات عند حدود سوريا والأردن، بل تمتد لتشمل الأفق العربي الأوسع. فالانفتاح السوري من شأنه أن يفعّل مشاريع الربط الإقليمي، وخاصة تلك المتعلقة بالطاقة والكهرباء، حيث من المتوقع أن يتم إحياء مشاريع الربط الكهربائي بين سوريا والعراق ولبنان والأردن، إضافة إلى تحسين انسياب السلع والبضائع القادمة من الخليج العربي إلى سواحل البحر الأبيض المتوسط. كما أن البيئة الجديدة ستخلق فرصًا مهمة أمام الشركات العربية، خاصة في القطاعات العقارية والإنشائية، إذ ستسعى دول مثل الإمارات ومصر ولبنان إلى دخول السوق السوري بقوة، مستفيدة من الحاجة الكبيرة إلى البنية التحتية والخدمات. وإلى جانب ذلك، فإن القطاع المصرفي العربي قد يعيد التفكير في التوسع نحو سوريا، في حال توفرت الضمانات القانونية والبيئية للاستثمار الآمن. كما أن السياحة، سواء الدينية أو العلاجية أو الثقافية، قد تعود لتكون قطاعًا حيويًا يسهم في توفير فرص عمل وتحقيق دخل نقدي.
وتُعتبر عدة قطاعات المستفيد الأكبر من عملية الانفتاح بعد إزالة العقوبات، حيث سيشهد القطاع الإنشائي والعقاري انتعاشًا كبيرًا نتيجة مشاريع إعادة الإعمار، في حين سيستعيد القطاع الصناعي والزراعي دوره كمحرك رئيسي للنمو نتيجة تسهيل عمليات التموين والتسويق. كما سيزدهر قطاع النقل والخدمات اللوجستية مع تحسن البنية التحتية الإقليمية، فيما سيلعب القطاع المصرفي دورًا محوريًا في تمويل مشاريع التنمية وتسهيل التجارة. ولا يمكن إغفال أهمية قطاع السياحة، الذي قد يستعيد مكانته في ظل تحسن الأمن وتدفق الزوار من الداخل والخارج.
ومع كل هذه الفرص، تبرز الحاجة الماسة لوضع استراتيجية واضحة للمرحلة التي تلي رفع العقوبات، وذلك على المستويين المحلي والإقليمي. ففي الداخل السوري، يجب الشروع فورًا ببرنامج إصلاح اقتصادي شامل، يشمل تحديث البنية القانونية وتحسين مناخ الأعمال، ومكافحة الفساد، وتحقيق الحوكمة الرشيدة. كما أن إصدار تشريعات جديدة تشجع الاستثمار وتحمي حقوق المستثمرين سيكون ضروريًا لجذب رؤوس الأموال. إلى جانب ذلك، فإن إعادة هيكلة المؤسسات المصرفية والمالية لتتماشى مع المعايير الدولية ستُعد خطوة محورية لاستعادة الثقة الداخلية والخارجية بالاقتصاد السوري. على المستوى العربي، يجب تفعيل التعاون المنظم عبر المؤسسات الإقليمية، خاصة الجامعة العربية وصناديق التمويل العربي، من أجل وضع أطر تنفيذية واضحة للمساهمة في عملية إعادة الإعمار، وضمان توزيع عادل ومجدي للمشاريع. كما ينبغي إشراك القطاع الخاص العربي بشكل فعّال، بوصفه شريكًا أساسيًا في التنمية وخلق الوظائف وتحقيق النمو المستدام.

مواضيع قد تهمك