بشار جرار : تصفيرٌ على جانبي فاصلة!

كم تباهينا بتقديم الصفر إلى العالم. تناسى بعضنا أن قيمة الأصفار ليس في عددها بل في موقعها من الفاصلة. يسارا أم يمينا هي أصفار تعني المدققين الماليين ولا سياسة ولا دين وخطابة في الأمر. حفظ الحسابات وتدقيقها يقوم على الأرقام التي تصنع الحقائق، حيث لا مكان للعواطف ولا حتى للعقائد والمقدسات التي نفديها بالمهج والأرواح ليس شعرا ونثرا بل دما في ساحات الوغى.
في لحظات فارقة، في حياتنا الخاصة أو العامة، ثمة حاجة لا غنى عنها تتمثل بالتوقف أو الوقوف لغايات التقييم والتقويم. نسميها استراحات أو مراجعات، لإعادة النظر وتصحيح المسار في حال الانحراف عن البوصلة أو ضياعها، لا قدّر الله. في تلك اللحظة يقوم العاقل بالتصفير، لا صفيرا كما في «صفير البلبل» رائعة الأصمعي، بل تصفير لما تم عدّه أو احتسابه من أصفار يمين الفاصلة ويسارها. يهدف الحكيم حينها إلى الحرص على جمع الأصفار يمينا إلى يمين الفاصلة، لا خلفها متوارية الأنظار في اليسار!
في العلاقات الدولية، يرمز إلى ذلك التصفير بزر إعادة البدء من على مسافة واحدة بعد أو قبل تصفير جميع المشاكل أو الشوائب التي تعيق تقدم علاقة سوية صحية بين طرفين أو عدة أطراف. استخدمت ذلك الرمز وزيرة الخارجية الأسبق المرشحة الرئاسية الأمريكية السابقة هيلاري كلنتون خلال لقاء جمعها عام 2009 في جنيف بنظيرها الروسي سيرجي لافروف الذي وصفه الرئيس فلاديمير بوتين بعد ذلك بوزير الدفاع لا الخارجية كناية عن تشدده فيما يخص الأمن القومي الروسي، ومصالح روسيا العليا.
بعيد الكشف عن شبكة الخلايا الإرهابية الأربع كتبت لسي إن إن مقالة تساءلت فيها إن كان «الإخوان» أمام مفترق طرق أم فراق؟ وللأسف موقف حزبهم أكد أن «الجماعة والجبهة» شيء واحد، لا كما في مقولة وجهين لعملة واحدة بل للفاصلة المستترة التي تحركها القيادة الحقيقية السرية لجميع أذرع وأدوات فكر مؤسس الجماعة حسن البنّا ومنظرها الأكثر خطورة سيد قطب في «المَنشَط والمَكرَه» كما في قسم الولاء للمرشد وهي التسمية ذاتها -سبحان الله- المعتمدة في نظام ملالي طهران حيث «المرشد الأعلى» -بدلا من «المرشد العام» أو «المراقب العام»- دعا ما كان يسميه «الشيطان الأكبر» إلى استثمارات لا تقل عن ستة تريليونات دولار وهي -يا للمصادفة- الرقم الذي خسرته أمريكا على حروب الشرق الأوسط في ثلاثة أرباع قرن، (ستة إلى سبعة تريليون دولار) وفق تقديرات الرئيس دونالد ترامب التي كررها في ثلاث حملات انتخابية رئاسية.
الفاصلة المرتقبة لتصفير العلاقة مع أي تنظيم ديني أو غير أردني الانتماء والولاء في المطلق، لا تقف عند القرار السياسي، الأمني أو القانوني. الفاصلة المرجوة هي فاصلة ثقافية، تربوية-تعليمية، إعلامية ومن ثم اجتماعية، حتى تصير حقيقة واقعة في الانتخابات التمثيلية الحقيقية للناس -حيث لا تغيب الأغلبية الصامتة- انتخابات ديمقوراطية لا تقتصر على الترشيح والانتخاب وعملية الاقتراع، بل تشمل بحق مدخلات ومخرجات العملية الديموقراطية كلها.
لا يستقيم قياس الروحي بالمادي، ولا العالمي ولا حتى القومي بالوطني. مادامت الانتخابات أردنية، لا يجوز مشاركة أحد فيها سوى الأردنيين. ليس المشاركة فقط بل والتأثير أيضا في الخطاب المستخدم في الحملات الانتخابية. لا يعقل أن يكون نظام ولاية الفقيه وأدواته وثقافته حاضرا في بلاد لا شيعة فيها. على من تزاود بعض الجماعات؟ وفينا في القلوب والعيون قيادتنا الهاشمية الاي يتساوى فيها الولاء بين الأردني المسلم والأردني المسيحي. كما لا يستقيم فتح استمرار غض الطرف عن دعاة أحزاب وفصائل جلبت الدمار على أوطانها وقضاياها. قد نتفهم مثلا دعوة أحدهم للقومية العربية أو للاقتصاد الاشتراكي في برنامجه الانتخابي، لكن من غير المعقول الدعوة إلى نهج قادة لا زالت الأيام تثبت أن خياراتهم لا بل وطروحاتهم ومنهجيتهم وتجاربهم جميعها كانت كارثية.
الفاصلة التي فيها الفراق لا مفترق الطرق فقط، تكمن في استرداد مدنية الدولة بكل مؤسساتها، وفقا للدستور والمنطق الذي يسود دول العالم، بما فيها تلك النظم التي تحاول اختراق ساحات وطنية لأهداف ثبت خبثها وخباثتها. الفاصلة التي نحتاجها بشدة هي الفيصلية الهاشمية التي يعرفها هذا الهلال الذي كان خصيبا بحضاراته العريقة وعروبته وبعاطفته الروحية الطاهرة النقية.
ما زلت ألهج بالدعاء، بأن اللهم محبة وحكمة وقوة. اللهم مجلسا وطنيا استشاريا يكون في اختياره المعيار الأمني والمعرفي أولا وآخرا، بمعنى الانتماء والولاء، وما يملك الفرد لتقديمه في هذه المرحلة بالغة الأهمية من عمر المئوية الثانية المباركة لمملكتنا الأردنية الهاشمية. اللهم نقابات لا مكان فيها إلا للمهنة، وجامعات لا مكان فيها إلا للعلم، وقنوات ومنابر تحرر نفسها من شباك يحيكها غير الأردنيين في قضايا أردنية، وعندما يتعلق الأمر في الأماكن التي يبثون منها خارج الأردن تراهم، صما بكما عميانا.
بوقاحة وصفاقة يتنمر من لا يملك مظهرا واحدا من مظاهر التعددية والديموقراطية علينا، ونحن من احتمل نتائج سياساتهم الكارثية إرهابا ومخدرات وأشياء أخرى، قد يأتي أوان ذكرها إن أذِنَ المنبر وسمح المقام..