حسام الحوراني : عندما تتحول السياسات إلى أكواد: هل بدأ عصر «السيادة التكنولوجية»؟

في العقود الماضية، كانت السيادة تُقاس بمقاييس الجغرافيا، والثروات الطبيعية، والقوة العسكرية. اليوم، تُكتب فصول جديدة من معادلة النفوذ العالمي، حيث تحلّ الخوارزميات محل الجيوش، وتُختزل قرارات الحكومات في سطور برمجية، وتتحول السياسات الوطنية إلى أكواد دقيقة تدير حركة المال، والمعلومة، والسلوك البشري. نحن لا نشهد مجرد ثورة تكنولوجية، بل انتقالًا جذريًا نحو ما يمكن تسميته بعصر «السيادة التكنولوجية»، حيث تتحول الدولة من كيان سياسي تقليدي إلى منصة ذكية مبرمجة، قادرة على رسم مسارات التأثير من خلف شاشات الحواسيب العملاقة.
هذا التحول لا ينبع فقط من الانتشار الكاسح للتكنولوجيا، بل من تحوّل الذكاء الاصطناعي إلى قلب نابض في صنع القرار، والتنبؤ، والرقابة، والسيطرة. فاليوم، لا يُدار الاقتصاد فقط من قِبل وزارات المالية، بل من قِبل نماذج الذكاء الاصطناعي التي تتنبأ بالأسواق، وتُحلل سلوك المستهلكين، وتُوصي بالاستثمار الأمثل. ولا تُحدد أولويات التعليم بناءً على اجتهادات وزارية، بل وفق تحليلات خوارزمية ترسم خرائط المهارات المستقبلية. حتى الأمن الوطني بات يعتمد على تقنيات التعرف على الوجوه، وتحليل البيانات الضخمة، والرصد الذكي لأي تهديد محتمل.
وإذا كانت الثورة الصناعية قد منحت السيادة لمن يمتلك الفحم والحديد، فإن الثورة الرقمية تمنحها لمن يمتلك البيانات والكود. خذ مثالاً على ذلك ما يحدث بين الولايات المتحدة والصين. لم يعد النزاع تجاريًا فقط، بل تحول إلى صراع شرس على ملكية تقنيات الذكاء الاصطناعي، وأشباه الموصلات، وقدرة الدولة على إنتاج رقائقها الذكية بعيدًا عن الاعتماد على الخارج. فرض القيود على صادرات إنفيديا إلى الصين، واستثمارات واشنطن الضخمة في تصنيع الرقائق محليًا، كلها ليست فقط قرارات اقتصادية، بل تعبير صارخ عن مفهوم جديد للسيادة التكنولوجية.
في هذا السياق، لم تعد الشركات العملاقة مثل «ميتا» و»ألفابت» و»أمازون» مجرد كيانات اقتصادية، بل باتت تملك سلطة تتجاوز بعض الدول ذاتها. فهذه الشركات تمتلك القدرة على التأثير في الرأي العام، والتحكم في سلوك الأفراد، والتلاعب بالمعرفة والمعلومة، عبر خوارزميات غير مرئية تُعيد تشكيل وعي المجتمعات. وما يدعو للتأمل هو أن هذه السلطة لا تمارسها جيوش أو وزارات، بل مبرمجون ومهندسون يكتبون شفرات رقمية قد لا يدركون أبعادها الأخلاقية والسياسية.
ومع ازدياد النفوذ التكنولوجي، باتت الدول نفسها تتحول إلى كيانات مبرمجة. البيت الأبيض، على سبيل المثال، ألزم جميع الوكالات الفيدرالية بتعيين مسؤولين للذكاء الاصطناعي، في خطوة تعكس إدراكه أن القرارات القادمة ستكون هجينة: نصف سياسية، ونصف خوارزمية. وفي الشرق، تتحول الصين إلى مختبر ضخم لتطبيقات الذكاء الاصطناعي في إدارة المدن، وتسيير المرور، وحتى مراقبة السلوك الاجتماعي. أما أوروبا، فهي تخوض معركة تشريعية لضبط استخدام الذكاء الاصطناعي دون التضحية بالقدرة التنافسية.
لكن هذا العصر الجديد لا يخلو من المخاطر. فحين تتحول السياسة إلى كود، قد تضيع القيم في زحمة البيانات. من يراقب الخوارزميات؟ ومن يضمن عدم انحيازها؟ كيف نمنع الذكاء الاصطناعي من إعادة إنتاج التمييز والظلم بواجهات براقة؟ وماذا لو استُخدمت هذه التقنيات لتعزيز خرق حقوق الانسان، أو هندسة وعي الشعوب، أو حتى شنّ الحروب الرقمية؟
إن السيادة التكنولوجية ليست فقط فيمن يمتلك التكنولوجيا، بل فيمن يملك القدرة على توجيهها أخلاقيًا وإنسانيًا. الدول التي ستقود المستقبل هي تلك التي تدمج بين الابتكار التكنولوجي والرؤية القيمية. لا يكفي أن نمتلك الأكواد، بل يجب أن نفهم كيف نستخدمها، ولماذا، ولصالح من.
وفي ظل هذا الواقع، تبرز مسؤولية كبرى على صناع القرار، والمبرمجين، والمجتمع المدني، لضمان ألا تكون السيادة التكنولوجية مجرد فصل جديد من استعمار رقمي، بل أداة لتمكين الإنسان، وتعزيز العدالة، وخلق عالم أكثر توازنًا وشفافية. فنحن لا نواجه مجرد سباق نحو التفوق التكنولوجي، بل سباق نحو من سيتحكم في مسار الحضارة المقبلة.
في النهاية، السؤال ليس هل بدأ عصر السيادة التكنولوجية؟ بل: هل نحن مستعدون له؟ وهل نمتلك الإرادة لتوجيهه نحو مستقبل مشترك يخدم الإنسان لا يُخضعه؟ إنها معركة من نوع جديد، لا تُخاض بالسلاح، بل بالكود... والضمير. ــ الدستور