أزمة التسريب من الشاباك.. إسرائيل 2025 أكثر قومجية وتطرفاً وانقساماً.. وقيادتها “أقل جودة ونظافة يد”

تتفاعل قضية التسريب من الشاباك في إسرائيل، وتؤجّج الخلافات بين معسكرين متصارعين على هويتها والسلطة فيها، وهي، إلى حد بعيد، تعكس تغيّرات عميقة تعصف بها وتهدّد بتعميق انقساماتها، إلى درجة قد تصل إلى "دولتين إسرائيليتين مختلفتين”، وفقًا لمراقبين إسرائيليين.
واليوم الأربعاء، طلبت وحدة التحقيق مع أفراد المؤسسة الأمنية داخل وزارة القضاء، المعروفة بـ "ماحاش”، تمديد اعتقال الضابط في "الشاباك”، المكنّى بـ "أ”، الذي سرّب معلومات سرية إلى وزير وصحافيين اثنين، تتعلق بإدارة تحقيق سري حول تسلل الكاهانيين (أتباع الحاخام العنصري الراحل مئير كهانا، مؤسس حركة "كاخ” الإرهابية) إلى قيادة الشرطة. كما سرّب مستندات داخلية من الشاباك بشأن "السابع من أكتوبر”، تتناقض مع الرواية الرسمية للجهاز ذاته حول مسؤوليته عن الحدث الجلل، الذي تسبّب بخسائر فادحة وإهانة غير مسبوقة لإسرائيل، فاقت ما تعرّضت له في حروبها المتعددة مع العرب منذ نكبة فلسطين عام 1948.
هارئيل: القضية تدلّ على بداية تفتت داخلي في جهاز الشاباك.. ونتنياهو هو المستفيد الوحيد منها، كونها تصرف الأنظار عن الفضائح التي تحاصره وعن الحرب الفاشلة في غزة
ويُشار إلى أن الضابط "أ”، المعتقل منذ أسبوعين، قد اعترف بتورّطه في التسريب، وهو فعل محظور قانونيًا، إلا أنه يدّعي أنه قام بذلك "لإطلاع الجمهور على معلومات بالغة الأهمية”، في حين يزعم محاميه أن موكله اتخذ خطوة شرعية لأن "الديمقراطية تعني، من جملة ما تعنيه، الدفاع عن حق الجمهور في المعرفة”.
ويحاول طرفا الصراع الداخلي في إسرائيل توظيف هذه القضية للطعن في مصداقية ومكانة الطرف الآخر. فرئيس الوزراء بنيامين نتنياهو، تحاشى التدخّل في القضية خشية التورط في "تضارب مصالح”، خاصة في ظل التحقيق مع أحد مستشاريه المقربين من قبل الشاباك نفسه في قضية تتعلق بالمال والاختراق القطري. ورغم ذلك، شارك نتنياهو تغريدة نشرها عضو كنيست من حزبه (الليكود) دعت إلى التحقيق مع رئيس الشاباك، رونين بار.
أما "الليكود”، فقد جدد حملته على الشاباك، في بيان رسمي قال فيه: "أجزاء من الشاباك تحوّلت إلى ميليشيا خاصة تابعة للدولة العميقة”.
ويواصل وزير الأمن الداخلي، إيتمار بن غفير، هجومه العنيف على المؤسسة الأمنية، داعيًا الإسرائيليين إلى شكر الضابط المسرّب "أ”.
مقاطعة رئيس الشاباك
وفي ظل هذا التوتر المتصاعد، وكجزء من حملة المستوى السياسي ضد المؤسسة الأمنية، امتنع نتنياهو، أمس، بشكل غير مسبوق، عن دعوة مندوب من الشاباك لمرافقته في جولة أمنية ميدانية على حدود قطاع غزة. والأدهى من ذلك، أنه ألغى جلسة الكابنيت التي كانت مقررة ليل أمس، بسبب رفض الوزير المستوطن المتشدد بتسلئيل سموتريتش المشاركة فيها، معلنًا رفضه الجلوس إلى جانب رونين بار.
ورغم الحديث عن أن معظم وزراء الكابنيت يعارضون مقاطعة بار، فإن الاجتماع المخصص لمناقشة الحرب على غزة، ومستقبل صفقة التبادل، لم يُعقد، ما دفع عائلات المحتجزين الإسرائيليين إلى شن هجوم مضاد على الحكومة، متهمين إياها بالعبث بمصائر أبنائهم.
وفي تعليقه على التطورات، اتهم زعيم المعارضة، يائير لبيد، نتنياهو "بالسعي لتحويل الشاباك إلى شرطة سرية لحمايته الشخصية”.
ويعكس كاريكاتير نشرته صحيفة "يديعوت أحرونوت”، اليوم الأربعاء، موقف المعسكر المعارض لنتنياهو، حيث يظهر الأخير محاطًا بالوزراء، وهو يقول: "نحن على بعد خطوة من تفكيك الشاباك”، في سخرية من تصريحه السابق، قبل عام، حين قال: "نحن على بعد خطوة واحدة من النصر المطلق وتدمير حماس”.
وفي مشهد يلخص الحالة الراهنة لإسرائيل عام 2025، يستعد وزير الأمن الداخلي، المدان سابقًا بالإرهاب، للسفر إلى الولايات المتحدة برفقة مستوطن متشدد من مستوطنة يتسهار، رغم حظر دخولهما إلى أمريكا سابقًا، لضلوعهما في الاعتداءات على الفلسطينيين واليساريين اليهود، إضافة إلى اتهامات إسرائيلية له بالتحريض على اغتيال رابين.
نتنياهو ينتصر على الشاباك
يدفع هذا التسريب الخطير عددًا كبيرًا من المراقبين والمعلّقين في إسرائيل إلى الانشغال المكثف بالقضية، التي تعمّق حالة التشظي والانقسام الداخلي. ويذهب المحلل العسكري لصحيفة "هآرتس”، عاموس هارئيل، إلى حد القول إن القضية تدلّ على بداية تفتت داخلي في جهاز "الشاباك”، مشيرًا إلى أن نتنياهو هو المستفيد الوحيد منها، كونها تصرف الأنظار عن الفضائح التي تحاصره وعن الحرب الفاشلة في غزة، معتبرًا أنه يحاول اليوم الانتصار على الشاباك بعدما فشل في تدمير "حماس”.
أما البروفيسور مردخاي كرمنتسر، المعلق للشؤون القضائية في "هآرتس”، فيرى أن تسريب المعلومات يمسّ ليس فقط بالشاباك، بل بالبنية التحتية القيمية للدولة، مشددًا على ضرورة التحقيق الجاد في القضية. ويحمّل الحكومة مسؤولية خطيرة، قائلًا إنها ترعى باستمرار تعاملًا مستهترًا مع أسرار الدولة، وسط حملة شرسة على رئيس الشاباك، رونين بار. ويضيف كرمنتسر: "تسريب معلومة سرية هو مخالفة جنائية، بل جريمة”.
في السياق نفسه، تؤكد المعلّقة السياسية البارزة في صحيفة "يديعوت أحرونوت”، أريئيلا هوفمان، في مقال بعنوان "عندما تشرق الشمس على ميامي” (في إشارة إلى نجل نتنياهو الذي يعيش في ميامي على نفقة الدولة، ويشتهر بتصريحاته المستفزة)، أن الضابط "أ” ليس بطلًا، ولا كاشفًا للفساد، ولا مناضلًا من أجل العدالة، بل هو شخص ذو دوافع سياسية، خان الأمانة والثقة، وانضم إلى قائمة غير مشرفة من المسرّبين.
وفي ظل هذا السجال، الذي تفجّر بقوة منذ عام 2023، وما يزال يتواصل حتى اليوم، باتت إسرائيل في عام 2025 تبدو وكأنها دولتان مختلفتان، غارقتان في صراع داخلي يتجاوز مجرد التنافس على مقاليد الحكم. فالنقاشات حول "التسريب” وأمثاله لم تعد من باب "الخلاف الديمقراطي الصحي”، بل هي، وفق عدد من المحللين، انعكاس لصراع خطير وجودي، وليدة تحوّلات عميقة تهزّ ركائز الدولة.
ويذهب بعض المراقبين إلى القول إن إسرائيل اليوم تكابد حالة من التشظي والتمزق الداخلي تهددها أكثر من مجمل التهديدات الخارجية، على غرار ما حذّر منه رئيس الدولة السابق رؤوفين ريفلين عام 2015، خلال مؤتمر هرتزليا للمناعة القومية، حين قال: "إن انقسامات الأسباط والقبائل داخل إسرائيل أخطر عليها من القنبلة الإيرانية”.
عوامل الانقسام عميقة ومركّبة
يعكس هذا السجال حول قضية تسريب الشاباك، إضافة إلى قضية الاختراق القطري، وغيرها من الملفات الخلافية، رواسب صراع مبدئي وعميق بين المستوى السياسي والمؤسسة الأمنية، تفجّر بشكل صارخ منذ أن انحازت الأخيرة، علنًا، إلى جانب المعارضة ضد خطة "الإصلاح القضائي” التي طرحتها حكومة نتنياهو مطلع عام 2023، والتي اعتُبرت "انقلابًا على النظام السياسي”.
ضمن هذا الصراع، تدافع المؤسسة الأمنية عن دورها ومكانتها في الحكم بصفتها جزءًا من النخبة التقليدية (التي يسميها نتنياهو "الدولة العميقة”)، المهددة اليوم من قبل نخب جديدة صاعدة، بفعل تحوّلات اجتماعية وسياسية، أبرزها تراجع نسبة اليهود الغربيين (الأشكناز) والليبراليين، في مقابل ازدياد نفوذ اليهود الشرقيين (المزراحيم)، والمتدينين والمستوطنين.
وتتجلى جذور هذا الانقسام غير المسبوق في تورّط عدد كبير من السياسيين في قضايا فساد، دفعهم لمهاجمة "حراس العتبة”- القضاء، الشرطة، النيابة العامة، الإعلام- بعد أن رفض هؤلاء التساهل في محاكماتهم. ويصف بعض المحللين هذا الصراع بأنه "خصومة الحرامي مع الناطور”، في ظل استفحال الاستبداد السياسي واستشراء الفساد.
لكن ربما الأخطر من كل ذلك، هو الصراع على "الوعي الجماعي” للإسرائيليين، وبالتحديد في الإجابة على السؤال الكبير: من المسؤول عن الفشل المدوي في 7 أكتوبر؟
مردخاي كرمنتسر: تسريب معلومة سرية هو مخالفة جنائية، بل جريمة.. والحكومة ترعى باستمرار تعاملًا مستهترًا مع أسرار الدولة
المؤسسة الأمنية، من جهتها، تعترف بمسؤوليتها عن الفشل، على المستوى الاستخباراتي والعسكري والعملياتي، لكنها ترى أن الفشل الجوهري هو فشل سياسي من الدرجة الأولى. فقد راهن المستوى السياسي، بشكل وهمي، على أن حركة "حماس” مرتدعة، وأنه يمكن احتواؤها بالمال، بل تم السعي إلى إبقاء حكمها في غزة كأداة جيوسياسية لتكريس الانقسام الفلسطيني ومنع قيام دولة فلسطينية.
علامة فارقة
في ظل هذه السجالات، والكثير من القرائن، باتت إسرائيل عام 2025 مختلفة، فهي أكثر تطرّفاً وقومجية وتديّناً، وأقل ديموقراطية تجاه مواطنيها، قادتها أقل جودة ونظافة يد، ترجّح كفّة المصالح الفئوية على مصالح الدولة، وهذا يفسّر عدم وقف الحرب، وتعطيل صفقة التبادل بمنهجية. هذا صحيح على الأقل في مقارنة القيادة الحالية مع جيل سابق من ساستها، وربما هي جزء من ظاهرة عالمية اليوم.
وفي سياق التأثّر بالعالم الآخر لا بدّ من السؤال؛ هل كانت مثل هذه الانقسامات، التي تتجاوز حدود الخلاف في الرأي، لولا الربيع العربي منذ 2011، وكذلك والتطبيع العربي؟ وهما حدثان قد تسبّبا بتراجع تهديد الأعداء الخارجيين..
وسؤال آخر: يرى الإسرائيليون، اليوم، أن السابع من أكتوبر حدثٌ جللٌ له ما قبله وله ما بعده، وهذا ينطبق على واقع حال فلسطينيي الداخل (19%)، الذين باتوا يواجهون تهديدات غير مسبوقة على تشكيلة حقوقهم الوطنية والمدنية، فهل ينتظمون سياسياً، ويرتّبون صفوفهم لمحاولة إسقاط هذا الائتلاف، الأشد تطرفاً وعدوانية للشعب الفلسطيني، من خلال زيادة مشاركتهم في الانتخابات العامة بعد عام؟ هذا بيد فلسطينيي الداخل، في ظلّ حالة شبه التعادل بين المعسكرين المتصارعين، وقد سبق لهم أن حالوا دون تشكيل نتنياهو حكومة عدة مرات منذ 2018، وساهموا في إسقاطه في انتخابات 1999.