أ. د. محمد عبده حتاملة : فهم الشخصية اليهودية

الحلقة الخامسة
ومن هنا نحاول فهم هذه الهويات لا من خلال العودة إل ما يسمى (التاريخ اليهودي)، أو العودة إلى كتب اليهود المقدسة أو شبه المقدسة، أو إلى بروتوكولات حكماء صهيون، وإنما بالعودة إلى التشكيلات الحضارية والتاريخية المختلفة التي ينتمي إليها أعضاء الجماعات اليهودية، والتي تفاعلوا معها وأثروا فيها وتأثروا بها، وإن كانت درجة تأثرهم تفوق كثيرا درجة تأثيرهم كما هو الحال عادة مع أعضاء الأقليات. فهناك هوية بابلية يهودية، وأخرى فارسية يهودية، وثالثة أمريكية يهودية، ورابعة عربية يهودية.
وهذا النموذج التفسيري لا يهمل البعد اليهودي في بناء هذه الهويات، فالدين اليهودي (بخاصية الجيولوجية التراكمية) عنصر أساسي فيها، كما أن الرؤية الدينية بعد حيوي ومهم. وكل ما نفعله هو أننا لا نجرده وإنما نراه في تفاعله مع الأبعاد الحضارية الأخرى. كما أننا لا نرى أن له مركزية تفسيرية. ولذا، لا توجد (هوية يهودية) عامة مطلقة، وإنما هويات يهودية متعينة متنوعة.
والفكر الصهيوني يصدر عن نموذج اختزالي ينكر واقع الجامعات اليهودية الحضاري الفسيفسائي الجيولوجي التراكمي، ويطرح فكرة الهوية اليهودية العالمية الواحدة، وتتم عملية تسمية الواقع وتصنيفه من هذا المنظور. ومن ثم، فإن هناك مصطلحات مثل (يهود الدياسبورا (الشتات))، و(يهود المنفى) و (الشعب اليهودي)، وهي جميعا مصطلحات تفترض وحدة اليهود وتجانسهم. ولكن حين يصل أصحاب هذه الهويات إلى إسرائيل، يتضح للجميع أنهم ليسوا مجرد يهود، إذ يصبحون مرة أخرى يمنين ومصريين ومغاربة وروسا و ...! وتتحدد مكانتهم الاجتماعية بحسب ذلك. ولذا، ينكر كثير من اليهود المغاربة هويتهم العربية، ويصرون على أنهم فرنسيون وليسوا يهودا وحسب! وكذلك فإن يهود العالم العربي، الذين تم تهجيرهم باعتبارهم يهودا بشكل عام، يصبحون مرة أخرى يهودا شرقيين يقبعون في آخر درجات السلم الاجتماعي الإسرائيلي، كما يصبح يهود روسيا إشكنازاً أو غربيين، ويعطون المنح والقروض وأفخر المنازل، ثم يشغلون قمة السلم الاجتماعي. ومن هنا تظهر الهويات اليهودية المختلفة، وهو ما يؤدي إلى طرح قضية (الهوية اليهودية) على بساط البحث.
تاريخ الهويات اليهودية:
تاريخ الهويات اليهودية طويل ومركب، ويغطي أزمنة وأمكنة عديدة لا يربطها رابط في كثير من الأحيان. وأولى هذه الهويات ما نسميه: (الهوية العبرانية)، أي هوية العبرانيين قبل أن يتم تهجيرهم إلى آشور وبابل. وكانت الهوية العبرانية تستند إلى تعريف ديني قومي، كما كان الحال في الشرق الأدنى القديم. ونستخدم هنا مصطلح (قومي) لعدم وجود مصطلح أدق، ونظن أن مصطلح (أقوامي) أكثر دقة، لأنه مستمد من الواقع التاريخي القديم، إذ تشير الدراسات التاريخية إلى (الأقوام التاريخية) التي سكنت فلسطين، وكانت تسمى آنذاك: كنعان، وإلى (الأقوام الآرامية)، وهي مجموعات بشرية متماسكة على نحو فضفاض، تتصف ببعض السمات القومية، مثل اللغة المشتركة والثقافة المشتركة والدين المشترك، ولكنها ليست شعوبا ولا قوميات بالمعنى الحديث للكلمة.
ولم يكن التعريف الديني القومي للهوية العبرانية منغلقا تماما، فثمة إشارات عديدة في الكتابات العبرية التي تعود إلى هذه الفترة أو تتحدث عنها إلى الأجنبي أو الغريب (غير) الذي بوسعه أن ينتمي إلى الجماعة العبرانية عن طريق التهود. وقد جاء في سفر التثنية: «لا تظلم اجيرا مسكينا وفقيرا من إخوتك أو من الغرباء الذين في أرضك في أبوابك، في يومه تعطيه أجرته ولا تغرب عليها الشمس لأنه فقير وإليها حامل نفسه لئلا يصرخ عليك الرب فتكون عليك خطية» (تثنية 24/14-15).
ــ الدستور