د. عدلي فندح : الأصول المشفرة بين التنظيم والحظر:

كيف تتعامل الدول مع العملات الرقمية؟
شهدت السنوات الأخيرة انتشارًا واسعًا للأصول المشفرة مثل البيتكوين والإيثريوم، مما دفع الحكومات إلى اتخاذ تدابير مختلفة لتنظيم هذا القطاع سريع النمو. ومع تزايد الاهتمام العالمي بهذه الأصول، أصبحت الدول تتخذ مواقف متباينة في كيفية التعامل معها، حيث تبنّت بعضها سياسات داعمة وواضحة، بينما فرضت أخرى قيودًا صارمة أو حظرتها تمامًا. في ظل هذا التباين، أصبح من الضروري فهم كيفية تعامل الدول مع الأصول المشفرة والتوجهات المستقبلية التي قد تؤثر على هذا المجال.
تُعد الولايات المتحدة واحدة من أكثر الدول التي تبنّت تنظيماً واضحًا للعملات المشفرة، رغم التعقيد الذي يحيط بإطارها التنظيمي نتيجة تعدد الجهات الرقابية. فاللجنة الأمريكية للأوراق المالية والبورصات SEC تتعامل مع بعض الأصول المشفرة على أنها أوراق مالية، بينما تصنّف هيئة تداول السلع الآجلة CFTC العملات المشفرة مثل البيتكوين والإيثريوم كسلع مالية. بالإضافة إلى ذلك، تفرض شبكة مكافحة الجرائم المالية متطلبات صارمة على منصات التداول لضمان الامتثال لقوانين مكافحة غسل الأموال. وعلى الرغم من هذه الرقابة، فإن بيئة تنظيم العملات المشفرة في الولايات المتحدة تختلف من ولاية إلى أخرى، حيث تتبنى نيويورك قوانين صارمة بينما توفر ولايات أخرى مثل وايومنغ بيئة أكثر دعمًا لهذا القطاع.
أما في الاتحاد الأوروبي، فقد أُطلق إطار تنظيمي شامل عبر قانون Markets in Crypto-Assets MiCA، الذي يهدف إلى توحيد القوانين بين جميع الدول الأعضاء لحماية المستثمرين وتعزيز الشفافية. ويُعد هذا القانون من أكثر القوانين شمولًا في العالم، حيث يلزم منصات التداول بالكشف عن المخاطر التي تنطوي عليها الأصول المشفرة، كما يضع آليات لحماية الأسواق من التلاعب والاحتيال.
وقد سعت الإمارات العربية المتحدة إلى أن تكون رائدة في مجال تنظيم العملات المشفرة على مستوى العالم العربي، حيث أنشأت هيئة تنظيم الأصول الافتراضية في دبي VARA وهيئة تنظيم الخدمات المالية في أبوظبيFSRA، مما جعلها مركزًا جاذبًا للشركات العاملة في هذا المجال.
وفي الوقت الذي تسعى فيه بعض الدول إلى دعم الأصول المشفرة، فرضت دول أخرى قيودًا صارمة أو حظرت التعامل بها تمامًا، كما هو الحال في الصين التي تعد واحدة من أكثر الدول تشددًا في هذا المجال. فقد حظرت تعدين البيتكوين ومنعت جميع المؤسسات المالية من التعامل مع العملات المشفرة، مبررة ذلك بالمخاوف المتعلقة بالاستقرار المالي ومكافحة الاحتيال. لكن في المقابل، عملت الصين على تطوير عملتها الرقمية الرسمية، اليوان الرقمي، كبديل حكومي للعملات المشفرة الخاصة. وعلى غرار الصين، فرضت الهند قيودًا مشددة، حيث لم تحظر العملات المشفرة بشكل كامل لكنها فرضت ضرائب مرتفعة على أرباح التداول، كما وضعت قيودًا صارمة على تعويض الخسائر، مما جعل تداول العملات المشفرة في الهند أكثر صعوبة وأقل جاذبية للمستثمرين.
أما روسيا، فقد تبنّت سياسة أكثر تقييدًا حيث منعت استخدام العملات المشفرة كوسيلة للدفع، لكنها سمحت بتداولها كأصول استثمارية. كما أنها تدرس إمكانية استخدامها في التجارة الخارجية كوسيلة للتحايل على العقوبات الاقتصادية. وعلى الرغم من هذه القيود، تبحث الحكومة الروسية تنظيم تعدين العملات المشفرة وفرض ضرائب عليه، مما يشير إلى توجهها نحو احتواء هذا المجال بدلاً من حظره بالكامل.
وفي بعض الدول، لا تزال الأطر التنظيمية غير واضحة تمامًا، مثل السعودية التي لم تحظر العملات المشفرة لكنها حذرت من مخاطرها. وبينما يُمنع على البنوك السعودية التعامل بهذه الأصول، يظل تداول الأفراد لها مسموحًا دون تنظيم رسمي واضح. وفي مصر، يحظر البنك المركزي التعامل بالعملات المشفرة دون ترخيص، إلا أن التداول لا يزال مستمرًا عبر منصات غير رسمية، مما يعكس حالة من الغموض التنظيمي في البلاد. وعلى مستوى القارة الإفريقية، تتباين المواقف بشكل كبير، حيث تفرض بعض الدول مثل المغرب والجزائر حظرًا تامًا على الأصول المشفرة، في حين تعتمد دول أخرى مثل نيجيريا وجنوب إفريقيا سياسات أكثر مرونة، حيث تسمح بالتداول لكنها تفرض ضوابط تنظيمية. وقد أطلقت نيجيريا عملتها الرقمية الرسمية، النيرة الرقمية، بهدف تقديم بديل قانوني وآمن للمواطنين الذين يتعاملون بالعملات المشفرة.
ومع استمرار التطور السريع لهذا القطاع، تتجه معظم الدول إلى تعزيز الرقابة على منصات التداول لمنع الاحتيال المالي وتمويل الإرهاب، حيث يُتوقع أن تصبح قوانين مكافحة غسل الأموال أكثر صرامة في المستقبل. كما أن فرض الضرائب على أرباح تداول العملات المشفرة أصبح توجهاً عالمياً، مما قد يؤثر على معدلات الاستثمار في هذا المجال. وفي ظل هذه التطورات، تعمل العديد من الحكومات على تطوير عملات رقمية رسمية للبنوك المركزية، والتي قد تصبح بديلًا رسميًا للعملات المشفرة الخاصة. وعلى الرغم من بعض القيود المفروضة، فإن الحكومات تدرك أهمية التكنولوجيا التي تقوم عليها العملات المشفرة، وتسعى إلى تبني تقنية البلوكشين في مجالات متعددة، سواء في القطاع المصرفي أو اللوجستي أو الحكومي.
يبدو أن مستقبل الأصول المشفرة سيكون رهينًا بالقدرة على تحقيق التوازن بين الابتكار والتنظيم، حيث تسعى الحكومات إلى حماية الأسواق والمستثمرين دون إعاقة تطور هذه التكنولوجيا المتقدمة. ومع ازدياد الرقابة والضرائب، قد نشهد بيئة أكثر استقرارًا للأصول المشفرة، مما قد يساهم في انتشارها بشكل أوسع ضمن إطار قانوني أكثر وضوحًا.
في الأردن، في تطور جديد يعكس تغير الموقف الرسمي تجاه الأصول المشفرة، وافقت الحكومة الأردنية مؤخرًا، كما ذكرنا في مقال يوم أمس، على الأسباب الموجبة لمشروع قانون يهدف إلى تنظيم التعامل بهذه الأصول، وهو ما يشير إلى توجه جاد نحو وضع إطار قانوني واضح لهذا القطاع. يأتي هذا القرار في ظل تزايد الاهتمام المحلي والعالمي بالعملات المشفرة، والحاجة إلى إيجاد تشريعات توازن بين تشجيع الابتكار وحماية الاستقرار المالي.
يهدف مشروع القانون إلى تقنين استخدام الأصول المشفرة ضمن إطار قانوني يحد من المخاطر المرتبطة بها، مثل غسل الأموال والاحتيال المالي، مع ضمان حماية المستثمرين من التقلبات الحادة التي تشهدها هذه الأسواق. كما يسعى القانون إلى تعزيز الرقابة على منصات التداول وتحديد الجهات المخولة بإصدار التراخيص لممارسة هذا النشاط داخل الأردن.
من شأن هذه الخطوة أن تضع الأردن في موقع أكثر تنافسية في المنطقة، خاصة مع تزايد تبني الدول المجاورة، مثل الإمارات والسعودية، لتقنيات البلوكشين والعملات الرقمية في الأنشطة الاقتصادية المختلفة. ــ الدستور