د. محمد العرب : ما وراء الإدراك ولادة العقل الجديد

منذ بدء الخليقة، كان الوعي الإنساني هو القوة الدافعة التي قادت البشر إلى اكتشاف أنفسهم والعالم من حولهم. لكن في ظل التقدم التكنولوجي المتسارع، بدأ سؤال جديد يظهر على السطح: هل يمكن للإنسان أن يتجاوز حدوده الإدراكية الطبيعية؟ هل يمكننا، من خلال التكنولوجيا والعلوم المتقدمة، أن نصل إلى أبعاد جديدة من الوعي تتجاوز ما نختبره اليوم؟
التطورات في علوم الأعصاب والذكاء الاصطناعي بدأت تفتح أبواباً لفهم الوعي بطرق لم تكن ممكنة من قبل. العلماء اليوم يعملون على فك رموز العقل البشري، محاولين تحديد النقاط التي يمكن من خلالها تعزيز أو توسيع الإدراك. تقنيات مثل التحفيز الدماغي العميق أو الزرعات العصبية، التي تسمح بالتواصل المباشر بين الدماغ والآلات، قد تكون البوابة نحو مستقبل يتخطى فيه الإنسان حدود وعيه الحالية.
تخيل عالماً يمكن فيه للعقل البشري أن يتصل مباشرة بمصادر لا نهائية من المعلومات. في هذا السيناريو، يمكن للإنسان أن يختبر تجارب غير ممكنة اليوم: مثل الشعور بمرور الزمن بشكل مختلف، أو فهم الأبعاد الكونية بشكل مباشر، أو حتى الشعور بوعي جماعي مشترك بين البشر. إذا أصبح الوعي مرناً بهذه الطريقة، فإن مفهومنا للواقع نفسه قد يتغير بشكل جذري.
لكن مع كل هذه الإمكانيات، يظهر سؤال فلسفي عميق: إذا تجاوزنا حدود وعينا الطبيعي، فهل سنبقى بشراً كما نعرف أنفسنا؟ الوعي هو ما يجعلنا نشعر بالتجربة الإنسانية، بالفرح والحزن، بالوقت والزمن، وحتى بالموت. إذا تغير هذا الإطار، قد نفقد الجوانب التي تجعلنا مرتبطين بجوهر إنسانيتنا.
النظريات الفيزيائية الحديثة، مثل نظرية الأوتار أو العوالم المتعددة، تقدم تصوراً مختلفاً تماماً للواقع. هذه النظريات تقترح أن ما ندركه هو جزء صغير جداً من الكون الحقيقي، وأن هناك أبعاداً وأكواناً موازية لا يمكننا إدراكها بوعينا الحالي. إذا تمكنت التكنولوجيا المستقبلية من ( فتح )هذه الأبعاد للإنسان، فقد نصل إلى حالة من الإدراك تتجاوز حدود الزمان والمكان كما نفهمهما.
على الجانب الآخر، هناك مخاوف حقيقية من أن السعي لتوسيع الوعي قد يأتي بتكلفة باهظة. إذا تمكنت النخب او الدول المتقدمة علميا من الوصول إلى هذه التقنيات أولاً، فقد يؤدي ذلك إلى خلق طبقات جديدة من التفاوت بين البشر. الخوف الآخر يكمن في فقدان السيطرة: ماذا يحدث إذا تجاوزنا حدوداً معينة ووجدنا أنفسنا غير قادرين على العودة؟ إذا أصبحنا جزءاً من وعي جماعي أو أبعاد كونية، هل ستبقى هويتنا الإنسانية موجودة؟
المحاولات الأولى لتوسيع الوعي ليست خيالاً علمياً بل بدأت تتحقق. تقنية الواقع الافتراضي تغير بالفعل الطريقة التي ندرك بها العالم، حيث يمكن للأشخاص (اختبار) بيئات وتجارب لا وجود لها في الواقع. تجارب التحفيز العصبي أثبتت قدرتها على تغيير الحالات العاطفية أو تحسين الإدراك. إذا استمرت هذه التقنيات في التقدم، فإن الوعي البشري سيصبح شيئاً مرناً يمكن تعديله وإعادة تصميمه.
في هذا السياق، يظهر مفهوم (ما بعد الإنسان) حيث يتحول الإنسان من كائن مرتبط بحدود بيولوجية إلى كائن مرن يمكنه إعادة تشكيل نفسه. هذا التحول قد يبدو إيجابياً من ناحية، لكنه قد يثير تساؤلات وجودية عميقة: إذا تغير وعينا لدرجة كبيرة، فهل سنبقى قادرين على فهم المعاني التي صنعناها لأنفسنا عبر التاريخ، مثل الحب، والإيمان، والفن؟ أم أن هذه المفاهيم ستتلاشى لصالح مفاهيم جديدة نابعة من وعي أكثر تعقيداً؟
ما وراء الوعي ليس فقط فكرة عن المستقبل، بل هو تحدٍ لما نعتقد أنه ثابت. نحن على أعتاب حقبة قد تغير كل شيء عن الإنسان. لكن علينا أن نسأل أنفسنا: هل نحن مستعدون للتخلي عن بعض من إنسانيتنا لاكتشاف أبعاد جديدة من الوجود؟ وهل ستكون هذه الرحلة إلى ما وراء الوعي تحرراً ، أم أنها ستقودنا إلى قيود جديدة لا نفهمها بعد؟
إن هذه الأسئلة ليست مجرد نظريات فلسفية، بل هي دعوة للتفكير بعمق في معنى الوجود، والتحديات التي قد يفرضها المستقبل على قدرتنا على البقاء كما نحن. الوعي هو هويتنا، ومن يدري كيف ستبدو هذه الهوية عندما يتسع إدراكنا لما وراءها.