الأخبار

عبد الهادي راجي المجالي : قبلاتي

عبد الهادي راجي المجالي : قبلاتي
أخبارنا :  

أمس وهم يبحثون بين الردم والركام، ظهر على الشاشة صوة (لصندل).. تذكرت طفولتي وتذكرت صنادل (باتا) كانت رفيقتنا في الصيف والشتاء.. صاحب الصندل استشهد ربما.

هل يعتبر من مخلفات الحرب؟.. لا هذا (الصندل) لا أظنه كذلك، هو ليس من مخلفات الحرب، هو من نتاجات الحرب.. وأجزم أن محاولة اقتنائه.. تعد أهم من محاولات الحصول على (الموناليزا).. الموناليزا مجرد لوحة رسمها (دافينشي).. وهو يدخن سيجارته، ويجلس في الريف الإيطالي.. لكن هذا (الصندل) خرج من الخدمة بعد (37) نزوحا.. مر من كل شوارع غزة، داس الرمل وبقايا القذائف.. ومر على حفرة صنعتها القنابل..

هذا (الصندل)، واجه حر الصيف ولهيب التراب وواجه برد تشرين..

شاهدته بين الركام، والكاميرا عشقته.. وأظنه أهم من جدار برلين، أصلا هذا الجدار قسم العالم، وأنتج صراعا استمر لأكثر من (40) عاما.. وكل من كان يعبره يتعرض للرصاص، الجدار وضع حواجز أيديولوجية بين العقل الألماني الشرقي والغربي.. لكن هذا الصندل لم يفعل شيئا، ظهر على الشاشة فقط كشاهد على العالم المجرم.. كانت خطيئته أنه حمى قدم طفل ربما لم يتجاوز الـ(5) سنوات من عمره وسار به من أقصى الشمال حتى رفح.. خطيئته أنه لم يسلم من القصف.. إسرائيل تغتال حتى (الصنادل)..! خطيئته أيضا أنه حمى قدم طفل تخلف العالم كله عن حمايته.. وسار به حين قرر العالم أن يسير في درب الجنون والذبح وأن يصمت عن قتل كل طفل وكل أم.. وكل صباح، إسرائيل حتى رغيف الخبز تغتاله.. تغتال خصلات الشعر على رؤوس الأطفال إن نبتت شقراء.. تغتال الحجر والشجر وتغتال الصوت.. والبلابل والنخل، هل يوجد شيء في غزة لم يتعرض للاغتيال؟

هذا الصندل باعتقادي.. أهم مما كتب (شكسبير).. كل القيم وكل أشكال الفضيلة وكل ما قدمه من صراع في مسرحياته، علقتها بريطانيا على الرفوف.. شكسبير لم يعد درسا للبشرية، صار درسا في اللغة فقط.. على الأقل هذا (الصندل) حتى وهو صامت وتعرض صورته على الشاشة، كان أبلغ من شكسبير.. لم يقم بروتوس بطعنه، من طعنه هي القيم التي لفظت وبصقت عند أول منعطف.. لم يشهد تواطئا مثل المؤامرة التي حدثت ضد يوليوس قيصر.. بل شهد جريمة أممية كل الشعوب في أوروبا حملت الخنجر وطعنته، كل القوانين التي أنتجتها البشرية وظفت ضده.. حتى القيم الإنسانية أصبحت لعنة عليه.. لو أن شكسبير عاش زمن الصندل، لكتب مسرحية على لسان النعل.. كي تعري هذا العالم.

هل مسّني الجنون بحيث أكتب لصندل في غزة، أم أنها لعنة اللغة التي تجاوزت الشعر والرواية والبلاغة.. حتى تختصر الحزن في صندل من غزة؟

لو أن غابرييل غارسيا ماركيز عاش ملحمة غزة، لكتب مئة عام من الصنادل ولم يكتب مئة عام من العزلة.. لو بيتهوفن عاش زمنك، لأنتج فيك ملحمة وليس مقطوعة موسيقية..

اعرف أنك من ضحايا الحرب، وأعرف أن القدم التي كنت تحميها من الحصى قد ماتت.. وصاحبها الآن تحت التراب، لكني وددت أن أرسل لك قبلاتي.. نعم قبلاتي وأدري أن القبل لا ترقى حد طرف نعلك أيها الصندل.. ــ الراي

Abdelhadi18@yahoo.com

مواضيع قد تهمك