محمد نعيم فرحات : مكر الجسارة أو الخسارة!
لا تقوم الزلازل في الطبيعة كترف في نظامها، بل هي ضرورة لتحقيق توازنها عندما يتراكم في كيانها خلل ما، تعالجه بأن تخرج الأرض إثقالها كي تستقر في صيغة تحتاجها.
للتاريخ أيضا زلازله الأكثر تعقيدا من زلازل الطبيعة، وفي إقليم كالشرق الأوسط، يقوم منذ الأزل في صميم خطوط طول وعرض منظومة من فوالق الجغرافيا والثقافات والجماعات والشاهد والغيب، الممتدة من الأرض حتى السماوات العلا، والذي ينام ويصحو، منذ قرون وليس عقودا فحسب، في كنف حالة احتقان شامله، ظلت تتفاعل على نحو خطر، ولم ترسُ، بعد، على ضفاف الحلول المقبولة. ويمر حاليا في لحظة هي الأكثر تعقيدا وخطرا منذ ألف عام، وتقف كل كياناته وتشكيلاته وقواه المنخرطة وغير المنخرطة أو المعنية بالصراع الدائر فيه، إما على خط بقاء مصيري أخير، وإما في مرمى التداعيات التي ستترتب عنه والتي ستلقي حتما بظلالها العميقة على الجميع حيثما كانوا، أقربون أم أبعدون.
معطيات الحرب الدائرة في الإقليم حاليا ومؤشراتها تقول لمن يعنيهم الأمر بدون عناء، بأنها سوف تستمر حتى منتهياتها من وجهة نظر الأطراف التي تخوضها ومناورات وقف إطلاق النار هي جزء من متطلبات المعركة نفسها وليست هدفا بحد ذاتها. وقراءة الواقع الموضوعي لملفات المنطقة وإمكانية إيجاد حلول لها، تقول، بأن تسويتها تحتاج لمعركة كبرى، تنقل الوضع القائم لنقطة تحول ينتج عنها فائز بالنقاط المُكِلفةِ وخاسر بالنقاط الثقيلة.
كل الأطراف تتحايل على نفسها وعلى الواقع معا، عندما يقولون بأنهم لا يريدون الذهاب إلى حرب كبرى، وتحويل ذلك لأحجية مملة لن تمنع بأي حال، احتمالية أن يجدوا أنفسهم وجها لوجه مع حرب كبرى رغم أنوفهم، ومن لم يذهب في اللحظة المناسبة لها، اليوم قبل الأمس وليس الغد فقط ببعض شروطه، ستأتي إليه لحظتها بأثقالها وشروطها اليوم وغدا وتطرق أبوبه بلا رحمة.
التوصيف الأنسب للحالة القائمة، أنها معارك كبرى تحتاج لفصل إطلاق النار الشامل المفضي لانكسار الأطراف التي ستخسر والأطروحات والمعادلات والمساحات والضحايا معا وصعود الأطراف التي ستربح. التحايل الذي تمارسه بعض الأطراف المنخرطة في الصراع -باستثناء إسرائيل -لتلافي الحرب الكبرى سيكون مصيدة مهلكة لهم، لأن كل الدروب في الإقليم تؤدي اليها، وكالعادة فإن كل الخيارات التي تكون بعد فوات الأوان يترتب عنها أثمان استراتيجية مادية ومعنوية باهظة.
في الموجهات الكبرى التي تملك أطرافها عوامل القوة والقدرة – بغض النظر عن توازنها-وتملك الدافعية والحوافز التعبوية والخلفيات والرهانات، هناك عناصر تلعب دورا جوهريا في تحديد مآلات المجابهة، كالمناعة الوجودية والقدرة على الاحتمال، وعنصر الحق والتفوق الأخلاقي، لكنها تبقى عناصر غير كافية اذا بقيت بدون رؤية واستراتيجية وعدة وعتاد مادي وفكري ملائم، أو عندما ينتابها سوء تقدير في التعامل مع معادلة لعبت دورا حاسما في التاريخ، هي معادلة الجسارة او الخسارة، لآن طرفا معتديا وظالما مرشح للفوز ولو الى اجل مسمى، إذا كان جسورا، فيما صاحب حق يميل للذكاء والتروي او التذاكي على الواقع على حساب ما تتطلب اللحظة من جسارة لأي اعتبار كان يكون مرشح للخسارة.
الاختلاف الماكر بين الجسارة والخسارة ككلمات يبدو في نقطة وليس حرفا، لكن الفرق بينهما في الواقع والتاريخ هائل ومروع، ومن يذهب بالجسارة الشجاعة الواعية نحو خياراته، لا يعود خاسرا أمام نفسه والزمن والضرورة، حتى لو خسر موضوع معركته، لأن شيئا ثمينا يبقى له في روحه ووعيه يحتاجه كي يعيد بناء نفسه، ومن يتعامل مع اللحظة الحرجة محمولا على عقلانية مفرطة وحسابات لا خيال فيها، لا أحد يضمن له، ألا يعود خاسرا من تحديات الحياة واستحقاقاتها.
نقل عن «موسكو فيتشي» قوله ذات يوم «إن الذكاء مقبرة للشجاعة» وما قاله صحيح الى حد بعيد، غير أن ما تقوله التجارب عن الدور الحاسم للشجاعة في الخيار والشجاعة في التفكير أهم.
شجاعة الاسكندر المقدوني وإدارتها بعقل ذكي كان على تماس واسع مع الجسارة وخيالها، مكنته من الوصول لجنوب شرق أسيا، قادما من مقدونيا بجيش ليس جرارا، حاصداً في طريقة ما وجد، من إمبراطوريات ودول وكيانات ومساحات.
وشجاعة التفكير والتقدير والموقف عند خالد بن الوليد، هي التي مكنته من استنقاذ جيش محدود تشتت وخسر في أول احتكاك له مع إمبراطورية الروم الجبارة في معركة مؤته. وجسارته وخياله الباسل، هي التي مكنته بعد بضع سنين فقط من تكسير مرتكزات الإمبراطورية الفارسية في ارض السواد، قبل أن يطلب منه خليفة المسلمين التوجه على رأس عشرة آلاف مقاتل لمواجهة إمبراطورية الروم العاتية وجيوشها الجرارة، ويهزمها على أرض الشام، رغم اقالته من قيادة الجيش، ثم يذهب بعد ذلك لتقاعد أراده أن يكون حتى الأبد في ظلال مدينة حمص الوارفة.
ثنائية «الجسارة أو الخسارة» تتشكل الآن بما فيها من فرص وما فيها من مكر، كمعادلة لها دورها وأثقالها وظلالها في الزلزال الذي يضرب الشرق الأوسط حاليا على مهل عميق وثقيل، يسمع الجميع ويرون بأم أعينهم ارتداداته الهائلة، التي سيكون لها دورها الجوهري في تحديد ورسم ملامح الإقليم إلى أجل سيطول. ــ الدستور