بشار جرار : غرفة الاعتراف وغرف الدردشة!
أبدأ بهذه الأخيرة حتى أنتهي منها سريعا. غرف الدردشة أو «الكْلَب هاوس» أو المساحات على منصة اكس -تويتر سابقا- هي مكان افتراضي كله نوافذ. لا باب له بل سراديب ودهاليز، يعلم خفاياها دهاقنة صناعة المحتوى والسرديات، لإحداث جملة من الأمور، منها إعادة صياغة الوعي والمفاهيم والسلوك، وتعديل ما يمكن إصلاحه دون تغييره بالكامل.
أتردد وأنصح بالتريث لكل من يدعى للمشاركة بتلك المساحات، مضيفا أو مديرا للحوار أو متحدثا أو مستمعا ما لم يفعّل خاصية حجب هويته، على الأقل لحين التأكيد من أن المحتوى يليق بالحضور، أو يطابق ما أعلن عنه من موضوع أو مواضيع «الدردشة» التي تصل أحيانا إلى آفاق الندوة الجديرة بتحويلها إلى مادة إعلامية، إذاعية وربما تلفزيونية لما فيها من معلومات مفيدة وآراء وازنة، ومنها ما ينحدر إلى مزالق ومهاوي علو الصوت وتدني المستوى والرؤية.
أما غرفة الاعتراف التي أكرس هذه المقالة لها احتفالا مع الأخوة المسيحيين بأحديْ الشعانين والقيامة العظيمة وأعياد الفصح المجيد بحسب التقويم الشرقي، فهي تخص الكنائس الرسولية شرقية وغربية التي تؤمن بسر الاعتراف كأحد أسرار الكنيسة.
أخط هذه السطور بعد متابعة جانب من أول عظة يلقيها غبطة الأسقف مار ماري عمونائيل العراقي الأسترالي المسيحي السرياني المشرقي وقد تعافى من طعنات تلقاها على المذبح في كنيسته قرب سيدني قبل نحو أسبوعين فقد على أثرها نور إحدى عينيه التي أصابتها طعنات إرهابي مأفون بالضلال والكراهية أو مغسول الدماغ لا فرق. هذا الخادم الأمين لمن يتبع خطاه، لم يغفر فقط بل وقام بالدعاء للجاني، بل وعبّر عن محبته له، داعيا رعيته إلى أن يشاركوه هذه المحبة والغفران.
ومن تجارب شخصية ووطنية وإنسانية، ما زالت أقف عاجزا عن استيعاب وتبني هذه القدرة العظيمة على المغفرة والمحبة. أكثر ما أستطيع زعمه أنني غالبت النفس حتى تغفر وتنسى من آذاني أو آذى من أو ما أحب، لكني أعترف وأقر بأني ودونما انتظار لغرفة اعتراف، أني ككثيرين عاجزين عن بلوغ هذا المستوى مما علّمه صاحب العيد والرسالة، السيد المسيح في عظة الجبل قبل ألفين عام. ألا أدخلناها مناهجنا الدراسية؟ ألا أدرجناها في فعالياتنا الثقافية والإعلامية؟ ألا يتصدى لها مرشح حزبي أو مستقل يحب الأردن وطنا ومملكة ونهرا ورسالة في إطلاق عملية تصالح مع الذات قبل الآخر؟ ألا نقيم لها خلوات وورشات عمل بعيدا عن الحكومات و «الإنجو» (اختصارا للمنظمات غير الحكومية) و»التكنو» (بكل أنواعها من الديجيتال إلى الذكاء الاصطناعي إلى التكنوقراط)؟
تراثنا الإسلامي والمسيحي زاخر بالمواعظ الحسنة وسنن الإحسان، فلمَ يصر البعض -وهم القلة القليلة- على تصدير صور وسلوكيات -للداخل والخارج- أبعد ما تكون عن معاني الشعارات الكبيرة التي يطرحها البعض. هذا يريد تحرير وذاك يريد تعمير، والكل لا يبدو منه إلا التبرير! فللمغفرة والمحبة، كما للإيمان والتقوى، ميادين كثيرة، ما السياسة إلا أشقاها!
كثير من مشاكلنا -لا أقول السياسية أو الاقتصادية أو الاجتماعية- بل حتى الصحية الجسدية والنفسية والعقلية، حلها بالتعامل مع المشاعر السلبية ذات التدمير الذاتي ومنها الغضب والحقد والحنق والتذمر واللوم والحسد والغيرة وحب الذات والأنا النرجسية المرضيّة، وظاهرة النفوس المنتفخة رضى عن نفسها وسخطا على الآخرين. من نحن؟ تراب وإلى تراب..
ــ الدستور