سلامة الدرعاوي : كيف نقرأ مراجعة حسابات الناتج المحلي؟
استكمال دائرة الإحصاءات العامة للمراجعة الشاملة للإطار الإحصائي للحسابات القومية وتحديث سنة الأساس للناتج المحلي الإجمالي، يدخل الأردن مرحلة جديدة من التطوير المؤسسي الذي يرسّخ موثوقية البيانات الاقتصادية ويعزز قدرة الدولة على التخطيط القائم على حقائق لا على تقديرات قديمة.
هذه المراجعة، التي امتدت لأربع سنوات بدعم من الإسكوا وصندوق النقد الدولي، هي خطوة سيادية تؤكد التزام الأردن بالمعايير الإحصائية العالمية وحرصه على إنتاج بيانات دقيقة تعكس التحولات العميقة التي شهدها الاقتصاد خلال الأعوام الأخيرة.
لقد أسفرت المراجعة عن رفع تقديرات الناتج المحلي الإجمالي لعام 2023 إلى 39.8 مليار دينار، بزيادة تقارب 10 %، وهذه الزيادة لا تعبّر عن نمو حقيقي، وإنما عن تصحيح في القياس بعد دمج أنشطة جديدة من الاقتصاد غير الرسمي، وتحديث المسوحات، وتوسيع قاعدة البيانات، واعتماد مصادر إدارية وقطاعية أكثر شمولاً.
وبذلك يصبح حجم الاقتصاد أكثر دقة، ويصبح هيكل الإنتاج الوطني أقرب إلى الواقع الفعلي الذي تشكّل عبر توسع الاقتصاد الرقمي وتغيّر سلوك المستهلك وإعادة تموضع القطاعات الإنتاجية والخدمية.
الأهمية المنهجية لتحديث سنة الأساس من 2016 إلى 2023 تكمن في أن بقاء سنة الأساس دون تحديث لفترات طويلة يؤدي إلى تشوّه في الأسعار الحقيقية وفي قياس القيمة المضافة للقطاعات، ويضعف قدرة الحسابات القومية على التقاط التحولات الهيكلية.
ولذلك تأتي هذه الخطوة لتصحيح المسار، وجعل المؤشرات الكلية أكثر انسجاماً مع التطورات الاقتصادية التي شهدتها المملكة، حيث تشير التجارب الدولية إلى أن تحديث سنة الأساس ممارسة معيارية؛ فقد قامت دول مثل إيطاليا والولايات المتحدة وكندا وكوريا الجنوبية بتحديثات مشابهة أسفرت عن تعديلات تراوحت بين 4 % و10 % دون أن يُنظر إليها كتحسن اقتصادي، لكن كتطوير إحصائي ضروري.
أما الانعكاس الأهم لهذه المراجعة، فهو تأثيرها المباشر على الصورة العالمية للاقتصاد الأردني، فالعالم يراقب الأردن كما يراقب سائر الاقتصادات، والمنظمات الدولية تعتمد على دقة الأرقام في تقييم الجدارة الائتمانية وفرص التمويل، أما المستثمرون فيتخذون قراراتهم بناءً على بيانات تعكس الواقع لا التقديرات المتقادمة.
وعندما يرى المستثمر الدولي أن الأردن حسّن منهجيته ورفع مستوى الشفافية، وأن حجم الاقتصاد أصبح مقدَّراً بدقة أكبر، فإن ذلك يعزز ثقته ويدفعه إلى النظر بجدية أكبر للفرص الاستثمارية داخل المملكة.
البيانات الدقيقة رسالة ثقة، وكلما زادت مصداقية الأرقام، ازدادت جاذبية البيئة الاستثمارية، وهذا ما ينطبق أيضاً على المؤسسات الدولية التي تنفذ مشاريع بالشراكة مع الحكومة الأردنية؛ فارتفاع جودة البيانات يجعلها أكثر اطمئناناً إلى قدرة الاقتصاد على استيعاب البرامج التنموية وتحقيق نتائج مستدامة.
إعادة تقييم القطاعات الاقتصادية كافة — من الطاقة والزراعة إلى الصناعات التحويلية والاستخراجية والتجارة والنقل والعقارات والإنشاءات—عززت من قوة هذه المنهجية، حيث لم تكن التعديلات منحازة لقطاع دون آخر، بل شملت الاقتصاد بمختلف مكوناته، مما يؤكد صحة الإطار الإحصائي المحدث وقدرته على تصوير الاقتصاد بطريقة أكثر واقعية.
في المحصلة، تحديث سنة الأساس هو ترسيخ لالتزام الأردن بالحوكمة الإحصائية ومواءمة بياناته مع أفضل الممارسات العالمية، والأهم أنه يعزز ثقة العالم والمستثمرين بالاقتصاد الأردني، ويضع المملكة في موقع أكثر تنافسية، ويمنح صانع القرار أدوات أكثر قوة لتوجيه السياسات نحو اقتصاد أكثر كفاءة واستدامة. ــ الغد