سعود الشرفات : الملك عبد الله الثاني .. قراءة في كتاب آرون ماجيد
الملك عبد الله الثاني: بين القيادة الشخصية والتحديات الإقليمية – قراءة في كتاب آرون ماجيد The Most American King
عند التفكير في الملك عبد الله الثاني، غالبًا ما تتبادر إلى الذهن صورة القائد الحاضر بثبات في منطقة مضطربة، ومع ذلك فإن قراءة كتاب آرون ماجيد، The Most American King، رغم عنوانه الصحفي المُثير الذي يثير الكثير من النقد والاستفزاز، تكشف أبعادًا أقل شهرة لشخصيته، وأثر تجربته الغربية على طريقة حكمه للأردن منذ عام 1999م. يقدم ماجيد شخصية الملك عبد الله الثاني ليس فقط كرمز سياسي، بل كفاعل رئيسي يتفاعل مع تحديات الداخل والخارج، ويستثمر خبراته الدولية لتوجيه السياسة الوطنية بوعي ودقة.
الكتاب الذي نشر باللغة الإنجليزية في الولايات المتحدة الأمريكية أواخر 2025م وتمت مناقشته وعرضه في أكثر من مناسبة ومكان داخل الولايات المتحدة الامريكية ولم تنشر عنه حتى الآن اية قراءة باللغة العربية – حسب علمي - يسلط الضوء على الخلفية الغربية للملك عبد الله الثاني، بدءًا من تعليمه في مدارس المملكة المتحدة والولايات المتحدة، وصولاً إلى تدريبه العسكري المتقدم في أكاديمية وست بوينت. هذه التجربة لم تمنحه مجرد شهادات أكاديمية، بل أسست لرؤية سياسية متكاملة تجمع بين الانفتاح على القيم الغربية وفهم عميق للتقاليد الأردنية. ماجيد يوضح أن الملك يستخدم هذه الخبرة لخلق توازن بين الابتكار السياسي والحفاظ على الاستقرار الداخلي، ما يجعله قائدًا عصريًا قادرًا على مواجهة التحديات المعقدة في المنطقة.
أحد الجوانب اللافتة في الكتاب هو تركيزه على العلاقة بين الملك والولايات المتحدة. يبرز ماجيد كيف استفاد الملك من الروابط الثقافية والتعليمية مع واشنطن لتعزيز موقف الأردن الاستراتيجي، ليس فقط في السياسة الخارجية، بل في دعم المشاريع الاقتصادية والتنموية الداخلية. يوضح الكتاب أن تجربة الملك الأمريكية والاتصال المباشر بالدوائر السياسية والدبلوماسية ساهمت في تطوير قدرة المملكة على مواجهة الأزمات، سواء كانت اقتصادية أو اجتماعية أو أمنية. بهذا، يقدم الكتاب صورة واضحة لكيفية تحويل شخصية القائد الفردية إلى قوة مؤثرة على الدولة بأكملها.
وعلى الرغم من قوة السرد، يواجه الكتاب بعض الانتقادات. فتركيزه على الشخصية الفردية قد يقلل أحيانًا من وزن المؤسسات، مثل الجيش، والاستخبارات، والبرلمان، التي تلعب دورًا رئيسيًا في صياغة القرار السياسي. ومع ذلك، فإن هذه المقاربة تمنح الكتاب حيوية كبيرة، وتخلق شعورًا بأن القارئ يشارك الملك في اتخاذ القرارات اليومية، ويتابع معاناته وتحدياته من داخل القصر الملكي، وهو ما يميزه عن الدراسات التاريخية الصارمة.
وعند مقارنة كتاب ماجيد بالأدبيات والكتب الأخرى المعروفة حول الأردن، تتضح إضافة قيمة له. فالمؤرخ البريطاني آفي شلايم، في كتابه المعروف عن المرحوم جلالة الملك الحسين بن طلال Lion of Jordan، يركز على الملك حسين، ويقدم دراسة تاريخية مستفيضة تعتمد على أرشيفات بريطانية وإسرائيلية وأمريكية، ليبرز التحديات التي واجهها الملك في صياغة تحالفاته الإقليمية والدولية. شلايم يعطي القارئ فهمًا تاريخيًا معمقًا للقيادة الملكية، لكن ماجيد يركز على مرحلة ما بعد عام 1999م، مقدمًا الملك عبد الله كقائد عصري قادر على التكيف مع العولمة والتحولات الحديثة.
ويكتسب السياق تحليلاً إضافيًا عند النظر إلى مساهمة الباحث الأمريكي روبرت ساتلوف، الذي ركز في كتابه من الحسين الى عبد الله "From Hussein to Abdullah: Jordan in Transition” على دور المؤسسات الحكومية والسياسات الداخلية والخارجية في الحفاظ على استقرار الأردن. وعرض القيادة الملكية ضمن شبكة مؤسساتية معقدة، موضحًا كيف تتفاعل الشخصية الفردية للملك مع الهيكل السياسي والاجتماعي المحيط بها.
والتركيز على الأردن كمؤسسة، حيث يرى الملك جزءًا من شبكة مؤسساتية دقيقة تعمل وفق توازنات معقدة. في هذه الدراسات، يتم تقديم القيادة ضمن سياق مؤسسي متكامل، يوازن بين شخصية الملك والهيكل السياسي والاجتماعي المحيط به. بالمقارنة، يركز كتاب ماجيد على الشخصية الفردية للملك عبد الله، ويبرز كيف يمكن للخبرات والعلاقات الدولية أن تؤثر في قيادة الدولة واستقرارها، وهو ما يعطي الكتاب حيوية وسلاسة في السرد، لكنه قد يقلل أحيانًا من وزن المؤسسات والفاعلين الآخرين في السياسة الأردنية.
في إطار أوسع، كتب أخرى مثل كتابات نايجل أشتون King Hussein of Jordan: A Political Life وكتب ومقالات يوجين روغان عن الأردن والمرحوم الملك حسين، تقدم منظورًا متوازنًا يجمع بين الوثائق الرسمية والسياق الإقليمي والمؤسسات والفاعلين السياسيين.
هذه الأعمال توازن بين شخصية المرحوم الملك الحسين والقوى الاجتماعية والسياسية المحيطة، فتقدم تفسيرًا أكثر شمولًا لأحداث السياسة الداخلية والخارجية، بينما يقدم كتاب ماجيد زاوية شخصية حيوية لفهم القيادة المعاصرة عند الملك عبدالله الثاني مما يجعله قراءة مكمّلة للأدبيات السابقة، وليست بديلاً عنها.
يكتسب كتاب ماجيد أهميته حين يُقرأ إلى جانب هذه الأدبيات كتكملة وتابع، لأن القيمة الحقيقية له لا تكمن في دقته الوثائقية مقارنة بشلايم أو في عمقه الاستراتيجي مقارنة بساتلوف، بل في محاولته بناء إطار تفسيري يرى أن السر السياسي للأردن لا يُفهم إلا من خلال تقدير الدور الاستثنائي للقيادة الأردنية بوصفها بنية نفسية ـ سياسية في آن واحد. ومع ذلك، فإن الاعتماد المحدود على المصادر الأولية والأرشيفية يجعله أقل صرامة منهجية من شلايم، ويجعل بعض استنتاجاته أكثر عرضة للنقد، خصوصًا حين يذهب الكتاب إلى تفسير تحولات كبرى في السياسات الأردنية بالرجوع إلى "خصائص شخصية” أكثر من تحليل البنى المؤسسية أو الضغوط الإقليمية.
الكتاب يسلط الضوء أيضًا على قدرة الملك على إدارة الأزمات الإقليمية المعقدة، مثل الحرب على الإرهاب، الحرب السورية، والتوترات في غزة، وتأثيرات الصراعات في العراق وفلسطين على الأردن. يوضح ماجيد أن نجاح الملك في هذه الملفات لا يعتمد فقط على القوة أو الموارد، بل على مهارات التفاوض، وفهم التحالفات الإقليمية والدولية، والقدرة على المناورة في بيئة معقدة. من هذا المنطلق، يظهر الكتاب الملك عبد الله كقائد عصري قادر على الموازنة بين الضغوط الخارجية والمصالح الوطنية، ما يعكس البراعة الاستراتيجية في قيادة دولة صغيرة لكنها مؤثرة في الإقليم.
في السياق الداخلي، يظهر الكتاب كيف يوازن الملك بين القيادة الفردية والبنى المؤسسية التقليدية، بما فيها الجيش، والمخابرات العامة، والبيروقراطية، والحكومة. يوضح ماجيد أن شخصية الملك نفسها تعد أداة فعالة لتعزيز عمل المؤسسات وتفعيلها، بحيث تتفاعل السلطة الفردية مع الهيكل المؤسسي بطريقة ديناميكية. هذا الجانب يضيف للكتاب بعدًا تحليليًا يربط بين الشخصية والسياسة الداخلية، ويظهر كيف يمكن للقائد العصري أن يستخدم خبرته وعلاقاته لتوجيه الدولة دون تعطيل المؤسسات القائمة.
من الناحية الاجتماعية والسياسية، يقدم الكتاب قراءة لكيفية استفادة الأردن من القيادة الحديثة للملك في مواجهة تحديات العولمة. يوضح الكتاب كيف أن الانفتاح على العالم، والقدرة على بناء شبكة علاقات دولية، ساهم في تعزيز المشاريع التنموية والإصلاحات الاقتصادية، ما منح الأردن قدرة على التكيف مع التغيرات الإقليمية والدولية. ويؤكد ماجيد أن القيادة الحديثة تتطلب مزيجًا من الكاريزما، والخبرة، والقدرة على التعامل مع مختلف الأطراف، وهو ما يميز الملك عبد الله عن سابقيه في العرش الأردني.
ورغم هذه القوة التحليلية، يواجه الكتاب بعض النقاط النقدية (تحتاج الى بحث اعمق واوسع من هذه القراءة ) أهمها اعتماد المؤلف على مقابلات شخصية وروايات فردية، حيث اعتمد على 100 مقابلة فردية مع شخصيات سياسية وامنية من مختلف الجنسيات (ذكرهم في مقدمة الكتاب) ما قد يقلل من عمق التوثيق المؤسسي والتاريخي. التركيز على شخصية الملك في بعض الفصول قد يغفل تأثير القوى الاجتماعية والسياسية الأوسع، بما فيها الحركات الشعبية، والنخب الاقتصادية، والدور البرلماني، التي تشكل محددات أساسية للقرار السياسي.
أعتقد أن قراءة هذا الكتاب ونشره باللغة الإنجليزية نهاية سنة 2025م تكتسب أهمية خاصة في هذه المرحلة الحساسة من تاريخ الأردن، في ظل التحديات والصرعات الإقليمية العنيفة والحرب في غزة وما يترتب عليها من تداعيات غير واضحة حتى الآن. كما تأتي هذه القراءة في وقت تعمل فيه أجهزة الدولة الأردنية بكامل طاقاتها ومؤسساتها، تحت توجيه سمو ولي العهد الأمير الحسين بن عبد الله الثاني، لصياغة السردية الوطنية الأردنية عبر تاريخها الممتد حتى اليوم. في هذا السياق، لا يقتصر الكتاب على تحليل شخصية الملك عبد الله الثاني، بل يمثل نافذة لفهم كيفية تفاعل القيادة الفردية مع واقع إقليمي معقد، وكيف يحافظ الأردن على استقراره من خلال شبكة من المؤسسات والخبرات الدولية.
الكتاب أيضًا يعكس النقاش الدائم حول أسلوب القيادة الحديثة. يبين ماجيد أن الملك عبد الله يعتمد على مزيج من التفكير الاستراتيجي، والمرونة في التعامل مع الأزمات، وفهم دور الشركاء الدوليين، خصوصًا الولايات المتحدة. هذه المقاربة توضح كيف يمكن لقائد عصري أن يوازن بين القيادة الفردية والقيود الواقعية، وأن يحافظ على الاستقرار ويحقق الإنجازات رغم بيئة إقليمية معقدة.
في المجمل، يقدم الكتاب مزيجًا جذابًا بين السرد القصصي والتحليل السياسي، ويتيح للقراء العامين والمثقفين على حد سواء نافذة لفهم شخصية الملك عبد الله الثاني ودوره في توجيه الأردن في مواجهة سيرورة العولمة والصراعات الإقليمية وحالة عدم اليقين العالمي . الكتاب لا يكتفي بسرد الوقائع، بل يقدم تجربة فريدة لفهم كيفية تفاعل الشخصية الفردية مع المؤسسات والديناميات الإقليمية، ويعطي القارئ إحساسًا مباشرًا بآليات القيادة الحديثة في منطقة مضطربة.
يمكن القول إن الكتاب يمثل نموذجًا حيويًا للكتابة عن القادة المعاصرين بأسلوب سلس وجذاب، يجمع بين التحليل السياسي والرواية الشخصية، مما يجعله قراءة ضرورية لكل من يسعى لفهم الأردن الحديث، ودور الملك عبد الله الثاني في الحفاظ على استقرار المملكة وتوجيهها في ظل التحديات المعقدة. من خلال دمج الخبرة الشخصية، والمهارات الدبلوماسية، والقدرة على التكيف مع العولمة، يقدم الكتاب صورة شاملة لقائد عصري، ليس مجرد ملك، بل رمز للقيادة الفعالة في منطقة تتغير بسرعة.
د.الشَرَفات / مدير مركز شُرُفات لدراسات وبحوث العولمة والإرهاب .