الأخبار

د. محمد الحدب : لماذا يركز الأردن على الاستثمار النوعي؟

د. محمد الحدب : لماذا يركز الأردن على الاستثمار النوعي؟
أخبارنا :  

في ظل تراجع تدفقات الاستثمار الأجنبي عالميًا وارتفاع مستويات عدم اليقين الجيوسياسي والاقتصادي، لم يعد السؤال المطروح في الأردن كيف نجذب الاستثمار، بل لماذا نركز على نوعه قبل حجمه، وما الأثر الحقيقي لذلك على الاقتصاد والمجتمع. فقد أثبتت التجارب الدولية أن الاستثمار لا يُقاس فقط بحجم التدفقات، بل بقدرته على خلق فرص عمل، ونقل المعرفة، وتعزيز الإنتاج، وتحقيق أثر اقتصادي واجتماعي مستدام.

في هذا السياق، يبرز النهج الذي يقوده جلالة الملك عبد الله الثاني في الترويج للاستثمار خارجيًا، وهو نهج يقوم على بناء الثقة قبل رأس المال، ويضع نوعية الاستثمار في صلب القرار الاقتصادي. فقد تعامل جلالة الملك مع ملف الاستثمار بوصفه أحد أعمدة الاستقرار الوطني، لا مجرد ملف اقتصادي تقني، وحرص في لقاءاته مع قادة الدول ورؤساء الشركات العالمية والمؤسسات الاستثمارية الكبرى على تقديم الأردن كشريك موثوق، يعرف ما يريد من الاستثمار وما لا يريده.

الرسالة الأردنية في هذا الملف واضحة: المملكة لا تبحث عن استثمارات عابرة أو تدفقات قصيرة الأجل، بل عن شراكات طويلة الأمد قادرة على خلق فرص عمل حقيقية، ونقل التكنولوجيا، وتعزيز الإنتاج، وربط الاقتصاد الوطني بسلاسل القيمة الإقليمية والعالمية. وهو توجه ينسجم مع تجارب دول نجحت في تحويل الاستثمار الأجنبي إلى رافعة للنمو المستدام، لا مجرد أرقام في الميزان المالي.

وتزداد أهمية هذا التوجه في توقيت يشهد فيه الاقتصاد العالمي تباطؤًا في الاستثمار الأجنبي، لا سيما في الدول النامية، نتيجة تشدد السياسات النقدية وتصاعد المخاطر الجيوسياسية. ورغم ذلك، حافظ الأردن على موقعه كوجهة استثمارية مستقرة، مستندًا إلى عنصرين أساسيين لا يمكن تعويضهما بالحوافز وحدها: الاستقرار المؤسسي، ووضوح المسار الاقتصادي.

وتُعد الجولة الملكية الأخيرة في آسيا مثالًا عمليًا على هذا النهج، إذ شملت اليابان، وفيتنام، وسنغافورة، وإندونيسيا، وباكستان، واستهدفت تنويع الشركاء الاقتصاديين، وفتح أسواق جديدة، واستقطاب استثمارات نوعية في قطاعات ذات قيمة مضافة. وقد بدأت هذه الجهود تترجم إلى شراكات مؤسسية، من بينها الاتفاقية التي وقّعتها وزارة الاستثمار مؤخرًا مع صندوق الاستثمار الإندونيسي، بما يعكس انتقال العلاقات الاقتصادية من مستوى الحوار السياسي إلى مستوى المشاريع طويلة الأجل.

ويتقاطع هذا الحراك مع زيارة دولة رئيس الوزراء الهندي إلى الأردن، وهي زيارة لا يمكن قراءتها بمعزل عن الدبلوماسية الاقتصادية التي انتهجتها المملكة خلال السنوات الماضية. فالهند، بوصفها واحدة من أسرع الاقتصادات نموًا عالميًا، تتحرك وفق حسابات دقيقة تتعلق بالاستقرار وموثوقية الشركاء، وهو ما يعكس قراءة إيجابية لموقع الأردن في خارطة الاستثمار الإقليمي، وفرص التعاون في قطاعات استراتيجية مثل الصناعة والدواء والتكنولوجيا والطاقة.

اللافت في التجربة الأردنية أن هذا الجهد الخارجي يتكامل مع مسار داخلي يركز على تحسين بيئة الأعمال، وتبسيط الإجراءات، وتوحيد المرجعيات، وتسهيل رحلة المستثمر، وهو ما يمنح الخطاب الاستثماري الأردني مصداقيته.

في المحصلة، يدرك الأردن أن الاستثمار ليس غاية بحد ذاته، بل وسيلة لتحقيق نمو اقتصادي مستدام، وخلق فرص عمل حقيقية، وتعزيز الاستقرار الاجتماعي. والتحدي في المرحلة المقبلة لا يكمن في جذب الاستثمار فحسب، بل في تعظيم أثره الاقتصادي والاجتماعي، ليبقى الأردن نموذجًا لدولة صغيرة بحجمها، كبيرة برؤيتها، وواضحة بمسارها. ــ الراي

مواضيع قد تهمك