الأخبار

أ. د. فالح السواعير : الجامعة كمنصة لتأسيس الشركات وبناء اقتصاد قائم على المعرفة

أ. د. فالح السواعير : الجامعة كمنصة لتأسيس الشركات وبناء اقتصاد قائم على المعرفة
أخبارنا :  

على مدى عقود، ارتبط مفهوم النجاح الأكاديمي بعدد الأوراق المنشورة في المجلات المرموقة، وبمؤشرات الاقتباس، ومعاملات التأثير، وهي معايير أساسية تسهم في ترسيخ جودة البحث العلمي وتعزيز تنافسيته عالميًا. ومع تطوّر دور الجامعة في القرن الحادي والعشرين، لم تعد هذه المؤشرات وحدها كافية لالتقاط الصورة الكاملة لأثر البحث العلمي. لم يعد الاكتفاء بالنشر العلمي كافيًا لتبرير زيادة استثمار الدولة والقطاع الخاص في البحث العلمي. فالمجتمع، وصنّاع القرار، والاقتصاد الوطني، باتوا يتوقعون من هذا الاستثمار أن ينعكس قيمةً اقتصادية واجتماعية ملموسة.

إلى جانب ذلك، أصبح جليًّا في الوقت الراهن مفهوم "السيادة التكنولوجية" (Technological Sovereignty)، حيث أدركت الدول أن امتلاك المعرفة دون امتلاك القدرة على تحويلها إلى منتج صناعي يعني فقدان القدرة على المنافسة، بل وحتى تهديد استقرارها واستقلالها الاقتصادي.

وانطلاقًا من هذا الإدراك، تبرز الحاجة إلى إعادة تعريف دور الجامعة؛ فلا يمكن لريادة الأعمال (Entrepreneurship) أن تبقى نشاطًا هامشيًا أو خيارًا فرديًا يقتصر على بعض الباحثين المغامرين، بل يجب أن ترتقي لتصبح الركن الثالث للمؤسسات الأكاديمية (a third pillar of academia)، إلى جانب التعليم والبحث العلمي. وبذلك لا تحل ريادة الأعمال محل خدمة المجتمع بوصفها الركن الثالث التقليدي، بل تقدم لها آليات عملية قوية لتحقيق غايتها. فتصبح خدمة المجتمع هي تحويل الابتكار إلى مؤسسات ومنتجات تخلق الوظائف وتُعزز الاستقلال الاقتصادي. إذا، لم يعد من الملائم النظر إلى الجامعة بوصفها مجرد مصنع لإنتاج المعرفة، وإنما كمحرك للابتكار (Innovation Engine)، ومنصة لتأسيس الشركات (Venture Building Platform)، قادرة على تحويل مخرجات البحث العلمي إلى حلول قابلة للتطبيق.

ومن هنا، ظهرت العبارة التي تختصر هذا التحول الجذري: "الشركات المنبثقة هي النشر الجديد"(Spinouts are the New Publications). ليس بمعنى أن النشر فقد قيمته العلمية، بل لأن القيمة القصوى للمعرفة لم تعد تُختزل في تداولها داخل المجتمع الأكاديمي، وإنما في قدرتها على التحول إلى قوة إنتاجية حقيقية. فالشركة المنبثقة عن البحث العلمي ليست مجرد شركة ناشئة تقليدية، بل هي الترجمة الاقتصادية المباشرة للعلم. ولهذا، باتت الجامعات الرائدة تنظر إلى تأسيس الشركات بوصفه استكمالًا طبيعيًا لمسار البحث العلمي، لا خروجًا عنه.

وهذا ليس في وسع الجامعات القيام به بمفردها. فالتطوير المتسارع للتقنيات العميقة (Deep Tech) في مجالات مثل الذكاء الاصطناعي (AI)، والتكنولوجيا الحيوية (Biotechnology)، والطاقة المتجددة (Renewable Energy)، يتطلب استثمارات ضخمة، ودورات بحثية طويلة، ومسارات تطوير معقدة تتجاوز قدرة المنح البحثية الجامعية التقليدية على تحمّلها منفردة. ومن هنا، تبرز الحاجة الملحّة إلى تلاشي الحدود الفاصلة بين الجامعة، والحكومة، والصناعة، بحيث تصبح الأطراف الثلاثة شريكة في سلسلة إنتاج معرفي واحدة، تبدأ من المختبر ولا تنتهي إلا عند الوصول إلى السوق وتحقيق الأثر.

غير أن هذا التحول لا يحدث تلقائيًا. فثقافة الريادة لا تُصنع بالشعارات، بل بالحوافز، وببنية التمويل، وبالأنظمة التي تكافئ المخاطرة والابتكار، وتمكّن نتائج البحث العلمي من عبور ما يعرف ب "وادي الموت": (Valley of Death). في هذا الوادي، تتعثّر أفكار واعدة كثيرة بسبب غياب تمويل العبور المبكر (Proof-of-Concept Funding) الذي يحوّلها إلى نماذج أولية (Prototype) قادرة على جذب رأس المال المتقبّل للمخاطر (Venture Capital).

ويبقى السؤال الأهم مفتوحًا: كيف يمكن للجامعات أن تبني أدواتها التمويلية لتحقيق هذه الغاية؟ وكيف تطوّر نماذج حوكمة تمكّن الباحث من أن يكون عالمًا ورائد أعمال في آن واحد؟ أسئلة تُناقَش بعمق في الجامعة الأردنية.

- نائب رئيس الجامعة الأردنية لشؤون الاعتماد والتصنيف العالمي والاستدامة

مواضيع قد تهمك