الأخبار

د. محمد العرب : الأوهام تقود إلى نوع آخر من الإدراك

د. محمد العرب :  الأوهام تقود إلى نوع آخر من الإدراك
أخبارنا :  

هناك لحظة صغيرة جدّاً، لا نكاد ننتبه لها، تفصل بين ما يصل إلى أعيننا وما نسمح له بالعبور إلى داخلنا، لحظة يختلط فيها الضوء بالشعور، والمنظور بالرغبة، والحقيقة بما نتمنى أن تكون عليه الحقيقة، في تلك اللحظة تحديداً، يولد الوهم، لا كخطأ بل كاستجابة، لا كخداع بل كاحتياج غامض يتجاوز صلابة الكون وصرامة الواقع !
نقول إن الشمس تشرق، مع أننا نعرف أنها لا تفعل، نقول إن النجوم تنطفئ، مع أننا نعلم أنها ماتت قبل آلاف السنين.
نقول إن الأفق مستقيم، رغم أن الأرض تنحني بصبر تحت أقدامنا.
ومع ذلك لا نشعر أننا نكذب.
بل نشعر أننا نسمّي الأشياء بما ينبغي أن تكونه، لا بما هي عليه.
هذه المفارقة ليست سذاجة بشرية، بل بنية أعمق من الإدراك نفسه: إننا نرى العالم كما يليق بنا، لا كما يليق بالحواس.
الحواس تخوننا، هذه حقيقة قديمة، لكن الحقيقة الأقسى أن العقل يخوننا أيضاً، لكن بخجلٍ أكثر، وبصنعة لغوية أجمل.
الجاحظ قال إن الحواس تكذب، لكن لم يقل إن العقل يجمّل الكذبة، ويحوّلها إلى تفسير ثم إلى يقين، ديكارت (رغم حذره) يعترف أن العقل قد يخطئ أكثر مما تخطئ العين، لأنه يميل إلى إطلاق الأحكام قبل أن يكتمل المشهد.
نرى قبعة ومعطفاً فنقول (رجل) نرى ظلاً، فنقول (شجرة) ومجرد أن نحكم يصبح الحكم حقيقة صغيرة لا نملك الشجاعة الكافية لتفكيكها.
الوهم يبدأ من الحواس، لكنه لا يكتمل إلا حين يباركه العقل.
سبينوزا بدوره يعرّي هذا الإصرار الغريب لدى الإنسان:
نعلم أن الشمس تبعد مسافات لا يمكن تخيلها ومع ذلك نشعر أنها قريبة، كأنها تلمس صدورنا كل صباح، الاقتراب هنا ليس فيزيائياً بل نفسياً، فنحن لا نقيس المسافات بالمعادلات، بل بالشوق، لهذا، تبدو الحقيقة العلمية في بعض الأحيان أضعف من الحقيقة الشعورية.
العصا المنكسرة في الماء مثال قديم، لكنه يشبه حياتنا أكثر مما يشبه الضوء: ما نراه منكسراً قد يكون مستقيما وما نراه مستقيماً قد يكون محطّماً منذ زمن !
الخطأ ليس في العين الخطأ في تصميم الإدراك الذي يمنح الأولوية للصورة لا للجوهر.
حين يعجز العقل عن الإمساك بالحقيقة، يتجاوز حدوده.
يعيد تشكيل الكون من جديد.
يصنع معاني للوجود كي يحمي الإنسان من الفراغ.
هذا ما قصده كانت حين قال إن العقل يرى (الظواهر) فقط، لا الأشياء كما هي.
لكن العقل لا يحتمل أن يخسر، فيبدأ في اختراع ميتافيزيقا تمنحه سلطة على الغيب.
العالم الروح البداية النهاية
كلها محاولات للسيطرة على ما هو أوسع من الإدراك البشري.
الوهم، في نظر كانت، ليس عيباً.
إنه أثر جانبي لاستحالة إدراك الحقيقة المطلقة.
ثم يأتي أفلاطون، القديم الجديد، ليقدّم القدر الأكثر بلاغة من الحقيقة: نحن سجناء كهف لكن السلاسل ليست حديداً، بل عادة وطمأنينة وخوفاً من الضوء.
ما نراه على جدران الكهف في الماضي كان ظلالاً، وفي الحاضر صار صوراً رقمية، فلاتر، (واقعاً افتراضياً)وأصدقاء لا وجوه لهم.
الكهف لم يختفِ؛ إنه يتجدد مع كل تقنية تزداد قدرة على صناعة وهْم مقنع للغاية.
ما نراه على الشاشة ليس واقعاً
بل نسخة مُحسّنة للواقع، نسخة تحاول أن تتسلل إلى وعينا وتقول:
هذه هي الحقيقة صدّقني، والإنسان، بطبيعته، يصدّق ما يُهدّئ قلقه.
ولكن ماذا لو كان الوهم ضرورة معرفية؟
ماذا لو كان هو الطريق غير المرئي نحو تأمل عميق لا تمنحه الحقائق الخام؟
ريكور يعتقد أن الوهم، مثل الرمز، لا يضلل بل يفتح باباً نحو طبقة أعمق من الفهم.
الإنسان لا يبحث عن العالم فقط بل عن تفسير للعالم.
ولا يريد ما يحدث بل لماذا يحدث.
الواقع بلا أوهام سيكون صحراء معرفية.
والأوهام بلا واقع ستكون تيهاً.
لكن بينهما يوجد الإنسان:
كائن يرى ما هو أمامه، ويحلم بما وراءه، ويتنفس من الفجوة التي تفصل بينهما.
السؤال الأخطر ليس: هل الوهم خطأ؟
بل: لماذا يبدو الوهم أحياناً أكثر صدقاً من الحقيقة نفسها؟
لماذا نشعر بالأمان في ما نعرف أنه غير حقيقي ونرتجف من مواجهة ما نعرف أنه واقعي؟
لماذا نؤمن بالصور التي نصنعها في خيالنا أكثر مما نؤمن بالصور التي تلتقطها أعيننا؟
ربما لأن الوهم لا يطلب منا مواجهة أنفسنا كاملة بينما الحقيقة تفعل ذلك بلا رحمة.
وفي النهاية : الوهم ليس قناعاً يخفي الحقيقة بل نافذة تكشف ما تتجنب الحقيقة قوله.
الوهم ليس انحرافاً عن الإدراك بل شكل آخر منه.
شكل أكثر جرأة وأكثر صدقاً وأكثر إنسانية.
وربما وهذا أكثر ما يربكنا أن ما نسمّيه وهماً قد يكون في الحقيقة الطريقة الأكثر عمقاً لرؤية الأشياء.

مواضيع قد تهمك