الأخبار

د. سلطان المعاني : التعليم جسراً حضارياً بين الأردن واليابان

د. سلطان المعاني : التعليم جسراً حضارياً بين الأردن واليابان
أخبارنا :  

تبدو زيارة جلالة الملك عبدالله الثاني إلى اليابان حدثًا يتجاوز الدبلوماسية إلى معنى أعمق، كأنها دعوة لتأمل المسافة بين تجربتين إنسانيتين تسعيان، كلٌ بطريقته، إلى إعادة تعريف التعليم باعتباره نَسغًا للحياة لا مؤسسةً رسمية فحسب. في طوكيو، حيث الوقت يُعامل كما يُعامل الذهب، وحيث أن الانضباط قانون وطبيعة، حمل جلالة الملك رسالة تفيض بإيمانٍ صريح بأنّ التعليم هو المشروع الأردني الأكبر، وأنّ بناء الإنسان هو أعظم مشروع وطني في زمنٍ تتنازع فيه الأمم على التكنولوجيا والمعرفة.
في تفاصيل اللقاءات التي جمعت جلالته بالقادة اليابانيين، تَشَكّل وعيٌ جديد للعلاقات الأردنية–اليابانية: واتخذ هذا التعاون مسار تحوّل إلى شراكة فكرية تؤمن بأنّ الإنسان المتعلم هو الثروة التي تصنع الاستقرار. وقد جاء القرض الميسّر الذي خصصته طوكيو للأردن علامة ثقة ورغبة في تمكين جيلٍ قادرٍ على التحول من التعلم إلى الابتكار، ومن التعليم التقليدي إلى التفكير النقدي، من التلقين إلى التجريب. فالتعليم في الرؤية الملكية يمتد إلى كل مساحة يتفاعل فيها الإنسان مع العالم، من السياحة إلى الثقافة، ومن المهارة إلى الإبداع.
حين ننظر إلى اليابان، نرى مرآة يمكن للأردن أن يطلّ عبرها على المستقبل. أمة جعلت من الفصل الدراسي امتدادًا للمجتمع، ومن الأخلاق جزءًا من المنهج، ومن الدقة سلوكًا يوميًا لا استثناء. وحين ينفتح الأردن على هذه التجربة، فإنّه يطوّر تجربته الخاصة القائمة على المرونة والذكاء الاجتماعي والقدرة على التكيّف مع الموارد المحدودة. هكذا تصبح الشراكة التعليمية بين البلدين مختبرًا عالميًا للتفاعل بين ثقافتين تنتميان إلى جذور مختلفة، غير أنهما تتفقان في غايتهما: بناء الإنسان الذي يملك ذاته ومعرفته معًا.
جلالة الملك يدرك أنّ التعليم قضية وطنية كبرى، وأنّ كل إصلاحٍ اقتصادي أو اجتماعي يبدأ من قاعة الدرس وينتهي عند عقل المتعلم. لذلك، فإنّ الاتفاق مع اليابان على توسيع مجالات التعاون في التعليم والتدريب والبحث العلمي يحمل دلالات استراتيجية تتجاوز الجانب الفني؛ إنه إعلانٌ عن دخول الأردن مرحلة الاستثمار في الوعي بوصفه الطريق الأضمن للنهوض. فالموارد الطبيعية قد تُستنزف، لكنّ العقول حين تُصقل تصبح موارد لا تنضب.
إنّ العائد على البلدين من هذه الشراكة لا يُقاس بمؤشرات النمو وحدها. فاليابان التي تكافح آثار الشيخوخة السكانية ترى في الأردن مستودعًا لطاقاتٍ شابة قابلة للتأهيل والتعاون، والأردن يرى في اليابان مدرسة في تحويل العلم إلى أسلوب حياة. من تفاعل الطرفين تنشأ بيئة إنسانية جديدة يتقاطع فيها الاقتصاد مع الثقافة، والتكنولوجيا مع القيم. إنها علاقة تنتمي إلى المستقبل أكثر مما تنتمي إلى الحاضر، تُبنى على تبادل المعرفة لا على تبادل المصالح.
حين نقرأ ملامح هذه الزيارة في ضوء فلسفة التعليم الحديثة، يمكننا القول إنّها تعيد تعريف مفهوم «القوة الناعمة» للدولة. فالأردن لا يملك مصانع ضخمة ولا بحارًا واسعة، لكنه يملك رأس مال رمزيًا يتمثل في قدرته على تصدير الكفاءات، وفي حسٍّ حضاريّ يربط بين الشرق والغرب. أما اليابان، فتمتلك خبرة تكنولوجية وثقافة عمل يمكن أن تُلهِم جيلًا أردنيًا جديدًا يؤمن أنّ الإتقان واجب أخلاقي. من هذا التبادل تتولد صيغة نادرة من التعاون، قوامها الاحترام والاعتراف المتبادل بقيمة الإنسان في بناء الحضارة.
الزيارة، في عمقها، إعادة ترتيبٍ للعلاقات بين المعرفة والتنمية، والتعليم والاقتصاد. إنها خطوة في مسارٍ طويل نحو تحويل التعليم إلى طاقة مجتمعية قادرة على إعادة تشكيل الوعي الوطني. وفي ضوء ذلك، تبدو رؤية جلالة الملك امتدادًا طبيعيًا لتاريخٍ أردني آمن دومًا بأن النهضة تبدأ من الكلمة، وأن التعليم هو الخلاص الممكن في زمن تتسارع فيه الفجوات بين الشعوب.
وتقاس هذه الشراكة بما تخلّفه من أثرٍ في طريقة تفكير الأجيال القادمة. وحين يلتقي الأردني بالياباني في مختبر أو قاعة أو موقع تراثي، فإنّهما يتبادلان احترامًا عميقًا للمعرفة والعمل والإنسان. إنّها لحظة استشرافٍ لمستقبلٍ أكثر اتزانًا، يُعاد فيه تعريف التعليم بوصفه رسالةً مشتركة بين الأمم لا ميدانًا للتنافس بينها.
وهكذا، تكتسب الزيارة معناها الحقيقي حين تُقرأ كفعلٍ ثقافيٍّ يفتح أبواب المستقبل. فالأردن يمضي في مشروعه الإصلاحي بثقةٍ وثبات، واليابان تفتح ذراعيها لشراكةٍ تقوم على التقدير والاحترام. ومن هذا اللقاء تولد إمكانية جديدة لعالمٍ يضع التعليم في صدارة القيم، وينظر إلى الإنسان غاية التنمية الكبرى. ــ الدستور

مواضيع قد تهمك