الأخبار

فراس النعسان : ما بعد العاصفة

فراس النعسان  : ما بعد العاصفة
أخبارنا :  

في اللحظة التي تظهر فيها أزمة بحجم ما أثارته تصريحات زياد المناصير، ثم تأتي كلمات رئيس الوزراء لتؤكد أن لا تهاون في تطبيق القانون مع من يستخدم سلطته لإعاقة الاستثمار، يصبح السؤال ليس عمّا قيل، بل عمّا يمكن فعله الآن. فالأردن لا يحتاج إلى مزيد من التشخيص؛ التشخيص بات معروفاً ومُجرّباً. لكنه يحتاج إلى أن تتحول هذه اللحظة إلى منعطف عملي لا يكتفي بالتفاعل اللحظي، بل يبني عليه ويستثمره.
النصيحة الأولى أن تتحول هذه الأزمة من ردة فعل إلى مدخل لإصلاح حقيقي. فالمشكلة ليست في فرد عطّل معاملة، بل في بيئة متوارثة تسمح لهذه الممارسات أن تتكرر دون أن يشعر أصحابها بأنهم يسيئون للدولة. إن وضع حدّ للبيروقراطية لا يتحقق بوعود عامة، بل بعملية تفكيك هادئة ومنهجية للطبقات التي تراكمت عبر السنين، بحيث يصبح القانون أداة للتيسير لا للتعطيل، ويصبح الموظف شريكاً في النمو لا حاجزاً أمامه.
ومن المهم التعامل مع هذه اللحظة باعتبارها إثباتاً جديداً لقيمة الشفافية. فالاعتراف العلني بوجود مشكلة في السلوك الإداري خطوة شجاعة، لكن ما يحتاجه الأردن اليوم هو ترجمة هذه الشفافية إلى نظام محاسبة واضح لا يقوم على الانطباعات، بل على الإجراءات. فلا يكفي القول إن «لا تهاون مع من يعيق الاستثمار»، بل يجب أن تكون هناك آلية محددة تُعرّف معنى الإعاقة، وتحدد مسؤوليات كل غرفة وكل موظف، وتضع زمناً ملزماً لإنجاز المعاملات. فالبيروقراطية لا تهزمها التصريحات، بل يهزمها الوقت المحسوب.
أما بالنسبة للمستثمرين، فإن استعادة ثقتهم تبدأ من التجربة المباشرة، لا من الخطاب. المستثمر يريد أن يشعر أن أبواب الدولة مفتوحة له بوضوح لا بغموض، وأن الإجراءات هي نفسها اليوم والغد وبعد عام. وكل مستثمر، سواء كان عملاقاً بحجم المناصير أو شركة ناشئة تبحث عن فرصة، سيراقب ما سيحدث الآن. فإن بقيت الأمور على ما كانت عليه، سيعرف أنّ الأزمة كانت مجرد ضجة عابرة. وإن لمس تغييراً عملياً في سرعة الإنجاز ووضوح المتطلبات واحترام الوقت، سيعرف أن البلد انتقل بالفعل إلى مرحلة جديدة.
تصريحات رئيس الوزراء لا يجب أن تبقى ردة فعل على حدث، بل أن تتحول إلى آلية دائمة. فالتجاوزات ضد الاستثمار لن تتوقف لأن شخصاً مؤثراً اشتكى؛ بل حين يصبح الأداء المؤسسي مرتبطاً بمؤشرات معلنة، وحين يدرك الموظف أن نجاحه يقاس بقدرته على خدمة الناس وحماية الاقتصاد. فالمسألة ليست معاقبة موظف هنا أو هناك، بل بناء ثقافة جديدة للعمل العام، ثقافة ترى في المستثمر شريكاً لا عبئاً.
وحتى يكون الإصلاح راسخاً، يجب أن يتجاوز السلوك إلى القوانين نفسها، لأن القانون المتشابك يخلق بيروقراطية حتى لو كانت النوايا صافية. المطلوب اليوم إعادة تبسيط الإطار التشريعي للاستثمار، وتوحيد الرخص، وتخفيف التعارض بين الجهات، بحيث يعرف المستثمر من أين يبدأ وإلى أين ينتهي دون أن يتنقل في متاهات غير ضرورية.
وما دامت الحكومة قد أعلنت عزمها على مواجهة من يستخدم السلطة لتعطيل الاستثمار، فمن المهم أيضاً أن ترسّخ ثقافة معاكسة: الموظف الذي ينجز وييسر ويختصر الطريق هو عنصر حماية اقتصادي لا يقلّ أهمية عن أي قرار كبير. فالاقتصاد لا يتحرك بالعقوبات وحدها، بل بحوافز تشجع على السلوك الجيد.
قد لا تكون عاصفة المناصير سوى حدث عابر في يوميات الأخبار، لكنها تحمل درساً ثميناً إذا ما استُثمر جيداً. فانتقاد المستثمر الكبير كشف الخلل، وردّ رئيس الوزراء أكد الوعي الرسمي به، وما بين الكشف والاعتراف تبرز مساحة الفرصة التي لا ينبغي أن تُهدر. فالأردن يستطيع أن يجعل من هذه اللحظة بداية جديدة، شرط أن يتذكر الجميع أن الاستثمار لا يحب الانتظار، وأن الوقت هو أثمن ما يمكن أن تقدمه الدولة لمشروع يريد أن يبدأ لا أن يتعثر.
ما بعد العاصفة يجب ألا يشبه ما قبلها. فالأمم التي تتقدم ليست تلك التي تخلو من الأخطاء، بل التي تُصلح مسارها عندما يظهر الضوء الأحمر. والأردن اليوم أمام هذا الضوء، وأمامه أيضاً فرصة ليقول: لقد سمعنا الصوت، وغيّرنا الطريق.

مواضيع قد تهمك